لم تحد إدارة أوباما، كسابقاتها من الإدارات، عن منهج «البراغماتية» و»الواقعية» كفلسفة ضاربة في الهوية الاجتماعية وهوية مؤسسات القرار. فبعد فشلها في محاولة «استيعاب» المنطقة مجدداً إثر الحراك العربي، وبلوغ سياسة «إدارة الأزمة» التي اعتمدتها خواتيمها، تجلّى بوضوح في المرحلة الأخيرة مسعاها لإنجاز «توازن كلاسيكي» في منطقتنا، فهو ضرورة لتعويض فقد هيمنتها التامة أو هيمنة حلفائها في إطار استراتيجيتها الخارجية الجديدة، وحاجة لتأمين مصالحها ومصالح حلفائها في منطقة بالغة الأهمية والتعقيد.
إنّ توقيع الاتفاق النووي مع إيران ضرورة في سبيل الغاية، مع غياب بديل فعال يمكن اعتماده، فإيران قوة نووية «سلمية» لا مشاحة والمسألة ناجزة عاجلاً لا آجلاً، ومن لديه البديل فليعرضه كما عبّر الرئيس الأميركي باراك أوباما في الآونة الأخيرة. وما تجاذبات الحزبين الرئيسين في أميركا إلا مزايدات أقصاها انتخابية وسياسة - مكشوفة – كعدة للتفاوض، إلا إذا كان البعض ينتظر أو مقتنع بأن أميركا قادرة اليوم أو غداً على خوض حروب مباشرة، متناسياً حقيقة أن أزمة السياسة الأميركية اليوم هي أزمة الولايات المتحدة لا أزمة الرئيس.
«التوازن الكلاسيكي»
ليس إلا أسوأ الحلول
في منطقة يشوبها انعدام الثقة

يأتي ترتيب البيت الخليجي وتوحيد رؤيته ولو قسراً، لتمكينه من لعب دور على الخريطة الجيواستراتيجية للمنطقة. كذلك السعي الحثيث لإنجاز تحالف عربي – إسلامي، كفرصةٍ يمكن البناء عليها لتثبيت التوازن بوجه محور المقاومة المتنامي القدرة والنفوذ، فالاعتقاد سائد أن قيام حلف كهذا وبظهير إسرائيلي، يمكنه إحداث توازن يحقق لإيران موقعاً، لكن لا يحوِّل النووي التقني إلى نووي سياسي. موافقة أميركا على عاصفة الحزم ضدّ الشعب اليمني، جاءت كرسالة ضرورية لإرضاء النظام السعودي ولتعزيز ثقته بنفسه وثقة دول التحالف المزمع إنشاؤه بوجه إيران به، وبدوره الطليعي. وجاء جيش الفتح (جيش التفاهم السعودي التركي القطري... إلخ) لتكون أولى نتائج هذا التفاهم إنجازاً نوعياً في إدلب وجسر الشغور، متزامناً مع حملة عسكرية واسعة وعاصفة على اليمن بقيادة سعودية. تزامن ذلك مع حرب نفسية لا نظير لها منذ أوائل الأزمة السورية على محور المقاومة. هكذا بدا المشهد أو هكذا صوّر، كأنّ السعودية والحلف من خلفها استعادا زمام المبادرة وخطفا الأضواء، كأنها قُلبت الموازين، وكأنّ أميركا تتجه لتحقق هدفها... فهل كانت المسألة فقاعة ماء سرعان ما تكشّفت حقيقتها؟
لم تنجح السعودية بالتصدي «للقيادة» ولم تساعد التغيرات الولايات المتحدة في «بناء التوازن وتحققه». لم يلتحق كل من مصر وباكستان كدولتين مصيريتين باستراتيجيتيهما رغم كل الدعاوى، بل في الوقت الذي يبني الملك السعودي سلمان التحالف مع الرئيس التركي أردوغان، تعلن مصر السيسي أحكام الإعدام وتنفذ بعضها بحق الأخوان... ولم تنجح الرياض في استجرار إسلام أباد رغم كل الضغوط، فعادت إلى المربع الأول مع بعض السنغاليين.
فشلت المملكة عسكرياً وسياسياً في تحقيق أي من أهدافها في اليمن، بل فرغّت الحرب من هدفها السياسي، وحولتها بسوء خبرتها وتعجرفها، تباعاً، إلى معادلة صفرية، وهو ما يستحيل بلوغه بوجه شعب، فكيف إذا كان الشعب اليمني؟ بمعنى كل خسارة أو فشل في تحقق الأهداف سيكون ربح لأنصار الله والجيش ومن خلفهم إيران... ولعّل هذا ما دفع ويدفع الولايات المتحدة للإلحاح على الحل السياسي تجنباً لمزيد من الفشل بالمراوحة، فلا فرصة للسير إلى الأمام كما لا يمكن التراجع، وبين هذا وذاك يتناقص الرصيد الأخلاقي والتأييد الدولي وتتهشّم صورة السعودية.
لا يزال التهديد الإرهابي تهديداً فعلياً بعد أن خرج من دوره المقرّر كأداة. فسقوط الأنبار بعد الموصل وصلاح الدين، وقبلها محافظات سورية بيد الإرهاب بصورة مفاجئة وغير متوقعة حتى من الولايات المتحدة، والأسئلة العميقة التي تطرحها لعمق هذا التحدي، وعقم الطريقة الغربية في مواجهته حتى اللحظة، كله يستدعي إعادة النظر باستراتيجية المواجهة كما اعترفت أميركا أخيراً في العراق، وربما في سوريا وكل المنطقة. وأنّ الإبقاء على هذه الظاهرة أو عدم التصدي الجدّي لها أو التهاون بها أو تركها لغايات استنزاف قوى المنطقة، سيهدد دول الخليج أولاً، لأنها بطبيعتها وبنية نظامها السياسي والاجتماعي الأكثر تعرضاً لمفاجآت الإرهاب وموجاته الكامنة. هذا فضلاً عن سؤال قدرة دول الخليج الذاتية للعب دور فعاّل في مواجهة التطرف، ويزيد الشك السؤال حول جديّة دول التحالف الدولي كتركيا – التي ما انفكت التقارير والمعطيات تؤكد تورطها الخطير في دعم الإرهاب واحتضانه - خصوصاً بعد تجربة كوباني ودروسها.
على عكس ما هو عليه محور المقاومة الذي أثبت فاعلية وكفاءة للتصدي للإرهاب وإنزال الخسائر به، وهذا ما ستؤكده المعركة المقبلة لتحرير الرمادي... والكلام نفسه يسري على الجيش السوري الذي ما زال يتقدّم وحلفاؤه بالتصدي للإرهاب، ويحرز إنجازات كبيرة رغم التدفق الممنهج والمكثّف من الأراضي التركية.
إسرائيل هي الأخرى لم تعد تمتلك جدارة الاعتماد لتحقيق الأهداف الاستراتيجية في مواجهة محور المقاومة بدءاً من المقاومة اللبنانية (قبل استراتيجية القلمون الهجومية الجديدة فكيف بعدها؟) كما المقاومة الفلسطينية في حربيها الأخيرتين. ولم تنجح إسرائيل في الاستجابة للجهد الأميركي المكثف لإنجاز التسوية مع الفلسطينيين، بما يخدم لإنفاذ الرؤية الأميركية لتحقيق التوازن المنشود، فالظهير الإسرائيلي لمحور تركيا - السعودية لن يأخذ مداه بوجه إيران، من دون السير ولو القسري في عملية التسوية، وهكذا أمكن تفسير مسلسل الضغط عبر الاعترافات الأوروبية والدولية وآخرها لحاضرة الفاتيكان. فبحسب التفسير الأميركي إنّ المسألة الفلسطينية هي أحد أبرز أوجه أزمات المنطقة إلى جانب أزمات أخرى كإيران ومحور المقاومة، بينما يصّر اليمين الإسرائيلي على رفض هذا التفسير.
القراءة الدولية المستجدة التي عبرّت عنها بشكل أو بآخر الزيارة المفاجئة لرأس الدبلوماسية كيري إلى سوتشي الروسية، وما رشح عنها من حديث أكيد عن تخفيف للتشنج مع الاتحاد الروسي في مسألة أوكرانيا وإعادة النظر في الحظر الاقتصادي، واللجان المشتركة التي انبثقت لبحث القضايا الساخنة في المنطقة وأبرزها اليمن وسوريا والعراق. وما صرّحت به الإدارة الأميركية وعلى لسان الرئيس أوباما ذاته (حتمية الحل السياسي في اليمن وسوريا ورفض حلف الناتو لأي كلام عن المنطقة العازلة في سوريا)، كما موافقة الإدارة الأميركية على دور الحشد الشعبي في معركة الأنبار رغم كل تحفظاتها السابقة وخلفياتها المعروفة، وكذلك عدم اعتراضها الجدي على قتال حزب الله في سوريا والقلمون في الآونة الأخيرة، وسعيها للحفاظ على المؤسسات السورية لا سيما الجيش في أي تسوية، مضافاً لانطلاق حراك دي مستورا في الأمم المتحدة لفتح الحوار حول سوريا. ولعّل المناورات الروسية الصينية للمرة الأولى في المتوسط، ومشهد رؤساء كل من روسيا والصين والهند وعشرات الدول تتطلب قراءة أميركية أكثر احتراماً لمصالح الآخرين وخطوطهم الحمراء. أمّا ميدانياً، ماذا لو فشلت تجربة جيش الفتح كثمرة تعاون المثلث السعودي التركي القطري؟ بعد إنهاء معركة القلمون وانتقال الجيش السوري والمقاومة إلى جانبه لاستعادة إدلب وجسر الشغور، فما المقدور عليه بعد ذلك عند المعارضة المسلحة وداعميها؟ هل منطقة حظر جوي رفضها الناتو للمرة الألف؟ أم تدخل تركي مباشر على غرار العدوان السعودي على اليمن.
محاولات الولايات المتحدة لتحقيق توازن كلاسيكي في طريقها إلى الفشل، بعدما فشلت سياستها الأولى في إدارة الصراع لا حلّه. باتت أميركا تدرك استحالة قيام توازن كهذا للظروف الموضوعية والواقعية القائمة دولياً وإقليمياً، ولا بدّ في نهاية الطريق من رابح وخاسر (حتى لو لم يعلن ذلك رسمياً). هذا ما بدأ يتلمسه حلفاؤها التقليديون السعودية وإسرائيل، فالسياق الدولي من جهة وتحولات الميادين اليمنية العراقية وحتى السورية أو تلكما غير المفعلّة (كالبحرين مثلاً) تسير لغير صالح الحلف السعودي التركي القطري.
في الأشهر المقبلة ستوقع إيران و5+1 التفاهم النووي، وستنطلق بعدها عجلة تسوية الملفات وفقاً لموازين القوى ومثاقيلها. هذا لا يعني أن المعركة انتهت إنما يعني أن مواقع القوى قد تبدلّت على مقاييس وسلم الصراع... أما نظرية الفوضى والتقسيم فتسير هي الأخرى إلى الانحسار بعد إدراك منظريها ومتبنيها أنّها ليست اللحظة المناسبة، فالجميع خاسر منها إلا إسرائيل. ليست مصلحة للاستراتيجية الأميركية واقعاً على المديين القريب والمتوسط، رغم كل الحديث وبعدما اتضّح ما اتضح وثبّت ما ثبت وتغيّر ما تغيّر.
لقد غاب عن المنظرين الأميركيين وواقعييهم أنّ «التوازن الكلاسيكي» ليس إلا أسوأ الحلول في منطقة يشوبها انعدام الثقة بين أطرافها أصلاً... في منطقة شديدة الاضطراب وكثيرة المفاجآت والتعقيد كمنطقتنا. في مقابل هذا الطرح، تتقدم إيران التي تحوز على أوراق القوة الأكبر، والتي قدمّت نموذجاً بارعاً وفريداً لبناء موقعها الدولي في حياكة الربط العتيد بين بناء القوة والاعتراف بطرح وعرض واقعي وأخلاقي في آن، للخروج من إسقاطات طروحات «التوازن الكلاسيكي» والمعادلات الصفرية التي لا تزيد الأمور إلا توتراً وتوجساً بين القوى، إلى لغة المصلحة الجمعية، القائمة على المشاركة والشراكة لتحقيق مصالح الجميع في إطار يؤكد استقلال أمتنا الفعلي وقرارها الحر، ليس ذلك المستورد بمصالح الآخرين. إطار يسقط أطماع الاستعمار الحديث بأوجهه وأشكاله المختلفة ويؤكد هويتنا المهدّدة، وهذا الكلام ممره الوحيد الحوار المباشر... وفقط الحوار ولا من بديل آخر.
* باحث سياسي ــ لبنان