انتشر في الأسبوعين المنصرمين عملان دعائيان لحركة حماس، رسم كرتوني والآخر فيديو كليب، يُدّعى أنه من شباب غزة يشكرون به الحركة على إنجازاتها العديدة خلال فترة حكمها للقطاع المحاصر.الرسم الكاريكاتيري لرسام تُنشر له رسوم أحياناً في بعض وسائل الإعلام المحسوبة على حركة حماس. وكانت بعض الرسوم السابقة له قد خلقت حالة من عدم الارتياح بين معظم أبناء الشعب الفلسطيني، حيث كان قد رسم سيدة فلسطينية، تمثل الضفة الغربية، تتعرض لاعتداء جنسي من جندي إسرائيلي وبدت مستسلمة له، بل مستمتعة، فيما يقوم الجندي بقتل أطفالها أمامها. وفي رسم آخر، يظهر بعض المرابطين على حدود غزة، وباقي أبناء الشعب يشربون النرجيلة غير عابئين بما يحصل. فقط أبناء الحزب هم من يقاوم.
ثم يأتي الرسم الأخير الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ويسلط فيه الضوء على الانتخابات المحلية الفلسطينية المقبلة، وكان قد علق عليه: «الفلسطيني المسلم لا ينتخب العلمانيين الكفرة»! ويظهر شبان من أبناء حركة فتح، حيث يلبسون ملابس صفراء، ويصورهم كمجموعة من الشباب «الدشر» يقومون بملاحقة فتاة محجبة والتحرش بها، أحدهم يدخن النرجيلة، والثاني يجر حماراً ويدخن سيجارة ويرتدي بنطالاً ساحلاً، والثالث يقوم بتصوير الفتاة عبر جهازه المحمول. وعمد الرسام الى كتابة ما اعتبره موقف الشعب الفلسطيني الذي يمثله: «شعب فلسطين بريء من سبابين الرب والدين».
أليست هذه الرسوم المسموح بها، والتي تأخذ عدداً هائلاً من اللايكات (الإعجابات) على صفحة الرسام، دليلاً على تسلط الفكر السلفي الوهابي على العقل المهيمن في غزة؟ ألا يوجد مزاج سائد معادٍ للفن والإبداع في غزة بالضبط كما يوجد في المملكة العربية الوهابية؟ هل يوجد أصلاً مشهد ثقافي في غزة؟ ألم يصرّح ابن غزة، الفائز بالمرتبة الأولى في برنامج محبوب العرب، أنه لن يسمح لأخته بالغناء كونها فتاة؟ ألم يُمنع هو نفسه من الغناء في غزة أكثر من مرة؟
إن تكرار النفي المطلق لأي آخر وطني هو السائد في رسوم هذا «الفنان». ولكن الحركة ادعت بأن هذه الرسوم الإقصائية لا تعبر عن موقفها، وبالتالي يبرز سؤال محوري: هل كان يستطيع أي رسام كاريكاتير غير حمساوي، مثلاً، استخدام الأسلوب نفسه في القذف بحقها بالطريقة نفسها؟
تأخذ الانتخابات طابعاً
هزلياً يقرر الاحتلال إمكانية نجاح الفائزين فيها

وفي إطار الدعاية الانتخابية ذاتها، ظهر فيديو «شكراً حماس» الذي أظهر غزة الافتراضية تحت حكم الحركة وكأنها بالضبط ما سعت اتفاقيات أوسلو في بداية التسعينيات من القرن المنصرم إلى ترويجه عن «سنغافورة الشرق الأوسط.» غزة الافتراضية التي يجب شكر حماس عليها توفر لشعبها الشوارع النظيفة، ويعيش سكانها في بيوت وكأنها فنادق 5 نجوم، كل رجالها ونسائها يعيشون حالة من الفرح والتفاؤل لا تجدها حتى في النرويج!
والحقيقة أن هذا الفيديو هو التجسيد العملي للحياة في عالم افتراضي لا علاقة له بالواقع، ومن ثم الإيمان بأنه الواقع الموضوعي المعيش. وبالتالي، فإن أي نقد لهذا الخيال الافتراضي ما هو إلا تعبير عن «ضغينة» و»كره» للنجاحات الباهرة التي تم إنجازها خلال السنوات العشر الأخيرة. والحقيقة أن هذا الفيديو الترفيهي موجّه بالذات للجيل الجديد وصغار السن، ويعمل على تخديره وإبعاده عن أي محاولة لفهم الواقع المعيشي الصعب وطبيعة الاضطهاد المركب الذي يعانيه ويتحتم عليه مواجهته.
وكانت بعض الأصوات النقدية قد حذرت منذ إطلاق هذا الفيديو كليب من أنه هدية مجانية على طبق من ذهب للهسبراه الإسرائيلية (الدعاية المضادة). كيف ندعي بعد اليوم أننا تحت حصار إبادي، مروراً بثلاث حروب ــ إبادية أيضاً ــ قضت على البنية التحتية من ماء وكهرباء ومصانع. ريتشارد فولك مقرر الأمم المتحدة السابق في الأراضي المحتلة وصف الحصار عام ٢٠٠٧ بمقدمة لإبادة جماعية، وإلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي يسميه «إبادة بطيئة»، فيما تقرير هام للأمم المتحدة يؤكد بدلائل وقرائن ملموسة أن غزة ستصبح غير قابلة للحياة عام ٢٠٢٠، وأن ٨٠% من سكان القطاع يتلقون مساعدات من منظمات دولية. وكما توقعت هذه الأصوات النقدية، اقتنصت الصحافة الإسرائيلية هذه الفرصة الذهبية وبدأت بالترويج لأكذوبة أنه لا يوجد حصار على غزة. أكبر الصحف اليمينية في إسرائيل، يديعوت أحرونوت قالت:
«هذا الأسبوع نشرت حماس شريطاً تعرض فيه إنجازاتها في قطاع غزة، بهدف تحسين مكانتها بين سكان القطاع وابراز قدراتها في مجال العمل البلدي أمام سكان الضفة الغربية، ولكن مشاهدة الشريط تظهر أن حماس قررت تسويق قطاع غزة كأحد الأماكن الأكثر ملاءمة للسكن في الشرق الأوسط. ويعرض الشريط بوتيرة عالية قطاع غزة كمنطقة مزدهرة، مع مبان مثيرة للانطباع، وأحياء جديدة ونامية ومتنزهات مترامية الأطراف، وساحات وبحيرات وشمس وأناس يبتسمون في أماكن مختلفة في القطاع وهم يحملون لافتات كتب عليها «شكراً حماس»... لا يعتبر هذا الشريط شاذاً فقط بسبب الصورة التي يحاول خلقها، وإنما في الأساس لأن الحركة دأبت حتى اليوم على عرض أفلام عن القطاع كمنطقة خاضعة للحصار، أو حسب تعريفها «أكبر سجن في العالم». ولكن في الشريط الجديد، اختفت الأحياء التي تم إبرازها في أفلام حماس في السنوات الأخيرة، كحي الشجاعية المدمر، وحي الزيتون الفقير ومخيمات اللاجئين المهملة، كالبريج وجباليا».
وهكذا وقعنا في فخ الديماغوجيا الدعائية، السائدة هذه الأيام، وهي مؤشر على الانحدار الفكري المختلط بانتهازية فئوية، الديماغوجيا التي جمّلت عالماً صنعته الأيديولوجيا الحزبية الضيقة، عالم يراه ويستمتع به أعضاء وأنصار الحزب وحدهم، عالم سوّغ فيه الحزب العادات والتقاليد وشكل فيه الدين والعقيدة لتتماشى جميعاً ورغباته وتلبي احتياجاته ومصالحه. إنه عالم لا يستطيع الإنسان العادي أن يراه أو يشعر به لأنه وبكل بساطه إما حاقد، أو «علماني كافر».
كل هذا من أجل الفوز بانتخابات بلدية تحت حراب الاحتلال الذي لن يمكن المجلس المنتخب من تنفيذ أي من وعوده الانتخابية. هذه الانتخابات التي تأتي تحت حصار خانق ضد سكان قطاع غزة، وبالتالي تأخذ طابعاً هزلياً يقرر الاحتلال إمكانية نجاح الفائزين بها، إذا لم يكونوا معارضين أو مقاومين لسياساته. كما أنها تأخذ طابعاً فصائلياً لتوجهات سبق أن أُعطيت فرصاً عدة أثبتت خلالها عدم مهنيتها وفشلها الذريع في تحقيق ما وعدت ناخبيها به، عدا عن تغليب الحزبي لدى البعض منها على الوطني.
فبدلاً من العمل، كحركة مقاومة لشعب يرزح تحت احتلال عسكري ونظام أبارتهيد واستعمار استيطاني، على خلق برنامج يحقق التعايش بين جميع ألوان الطيف السياسي على قدم المساواة بعيداً عن الثنائية الفصائلية الإقصائية، على أساس مهني بحت يأخذ المصلحة الوطنية العامة فقط كنبراس للعمل، وحكم يفتخر بالتنوع الفكري ويشجعه، تأتي هذه الأعمال «الفنية» الإقصائية لتعكس حالة جماعية تتسم بإنكار كامل للواقع المعيش، بارانويا مزمنة، هوس من كل ما هو آخر وإيمان يقيني بأن «فصيلي هو الأفضل كونه الأكثر إيماناً، بينما الآخرون كفرة علمانيون»!
* مستشار سياساتي في «الشبكة» شبكة السياسات الفلسطينية، وأستاذ في جامعة الأقصى ــ غزة