بعد مئة عام من اتفاق «سايكس بيكو»، يبدو أن أوضاع أكثر من دولة عربية ستكون أسوأ مما كانت عليه سابقاً. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال ما نشهده من تجليات وتحولات يكشف عنها صراع تديره وتشرف عليه قوى دولية وإقليمية. ويرتبط ما تمر به دول «الربيع العربي» بالإضافة إلى العراق، بسياسات أنظمة حكم شمولية اتسمت بالتناقض مع شعارات أيديولوجية روّجت لها، ما أفضى إلى أشكال حداثوية محمولة على قاعدة التخلف الاجتماعي والاستبداد السياسي.ويرتبط عجز تيارات القومية العربية عن إنجاز أهدافها، بعوامل متعددة منها: أولاً، طبيعة وبنية الأنظمة القومية الأيديولوجية الشمولية والسلطوية، وعملها على مزاوجة ذلك مع أفكار اشتراكية تم الاشتغال على تعريبها بعد اجتزائها من سياق تطورها المعرفي والتاريخي. هذه المزاوجة أفضت إلى ظهور تشوهات في بنية وأشكال الطبقة العاملة ووعيها. ثانياً، بغضِّ النظر عن الإنجازات التي حققها التأميم في مصر وسوريا والعراق، لكنَّ ارتباطها بسلطات أحادية وشمولية، أسهم في تكريس نمط «رأسمالية الدولة» الذي أدى بدوره إلى تقليص دور الطبقة الوسطى وصولاً إلى الإجهاز عليها وعلى الرساميل الوطنية المنتجة. وتزامن ذلك مع قمع تلك السلطات الأحزاب السياسية المعارضة وتحجيم فعالية مؤسسات المجتمع المدني، إضافةً إلى هيمنتها على النقابات ومؤسسات الدولة كافة، وتحويلها إلى أجهزة وأدوات سلطوية. ثالثاً، اعتماد سياسات اقتصادية من نتائجها إفقار غالبية الشرائح الاجتماعية.
ساهمت الأسباب المذكورة وعوامل أخرى مختلفة في إفشال المشاريع التنموية وازدياد الارتهان السياسي والتبعية الاقتصادية. ومن المعلوم أن تمكين الأوضاع المذكورة كان يحتاج على الدوام إلى تحويل الجيش وأجهزة الأمن إلى أذرع لسلطات سيطرت على الثروات الوطنية ومفاصل الحياة السياسية وآليات عمل المؤسسات القضائية والتعليمية والثقافية والإعلامية. وأسهم ذلك في تمكين نموذج «الدولة الأمنية» التي تتناقض سياساتها اليومية مع شعار الحرية الذي ما زالت تروّج له إعلامياً، ما فاقم من عزلة مجتمعاتنا، وزيادة منسوب عدائها لحكامها.
ومن نافل القول إن الرصيد الجماهيري للتيارات القومية، ارتبط بموقفها من النفوذ الأجنبي ووحدة الأرض واللغة والثقافة العربية والتاريخ المشترك، إضافةً إلى تبنِّيها خطاباً وحدوياً حاولت على أساسه تجاوز عوامل التجزئة التي اعتبرتها قضايا طارئة ومصطنعة. لكنَّ جميعها لم يبدد الالتباس الذي اكتنف مفهومها لمشروع «الدولة القومية العربية». وتجلى ذلك بعجز الأنظمة القومية عن وضع المقدمات والآليات المنهجية للتأسيس للوحدة العربية كحد أقصى، أو للتكامل العربي كحد أدنى، خصوصاً بعد هزيمة حزيران 1967. وكانت مآلات ذلك المحافظة على عوامل التجزئة، تذرير المجتمع وتفتيته، هدر الطاقات البشرية والموارد الاقتصادية، تعميم آليات الفساد والإفساد، ومخالفة توجهات المواطن العربي ومصالحه.
زاوجت السلطات بين سياسات ليبرالية ومحاربة الحريات السياسية

أما في ما يتعلق بالأحزاب الشيوعية «الرسمية»، فإن فشلها يتحدد بعوامل موضوعية مرتبطة بالمناخ الاجتماعي والسياسي، إضافة إلى تركيبة الطبقة العاملة وطبيعتها، والتداخل بين أنماط وأشكال اقتصادية متعددة. وأسباب أخرى ذاتية تتعلق ببنية تلك الأحزاب، وطبيعة خطابها السياسي وخضوعه للرؤية السوفياتية بنسختها الستالينية، وشكل علاقتها الداخلية القائمة على نزعة تقديس الفرد/ الأمين العام. جميع هذه العوامل ساهم في سياق الممارسة السياسية بتمكين أيديولوجيا «مقدسة» متلوثة بطبيعة الوعي السائد، ومتماهية مع بنية وأشكال تفكير السلطة الحاكمة. وبرغم نبل مقاصد المفكرين الاشتراكيين وضخامة تضحياتهم، فإن آليات اشتغالهم السياسية وطبيعة الأنظمة المسيطرة، ساهمت في عزلتهم عن أوساطهم الاجتماعية، وبالتالي عجزهم عن تحميل معتقداتهم على قوى اجتماعية مدنية. إضافة الى ذلك، فقد مثّل تداعي التجربة السوفياتية، مدخلاً إلى انهيار بعض الأحزاب الشيوعية، وتخلي بعضها الآخر عن هويته الأيديولوجية والسياسية في سياق إعادة بناء ذاتها على أسس ليبرالية. من جانب آخر، إن الخطاب الراديكالي، وآليات اشتغال الفصائل والتيارات السياسية المعارضة «غير الرسمية»، الليبرالية منها والشيوعية، جعلها هدفاً مباشراً للملاحقة والاعتقال. فلجأ بعضاً منها نتيجة عجزه عن تحقيق التغيير السياسي، إلى الاعتماد على مفاعيل خارجية أولاً، وعلى لغة سياسية ثأرية وانتقامية ثانياً، ما أسهم في تراجع تأثيرها الاجتماعي ومصداقيتها السياسية، وفي عزوف شرائح اجتماعية واسعة عن العمل السياسي. ويتضح ذلك جلياً في سوريا.
أما التيار الليبرالي، فإنه كان محصوراً بداية في إطار بعض النخب الفكرية والسياسية. ويعود السبب في ذلك إلى تركيز الليبرالية على الحريات السياسية وتجاهل العدالة الاجتماعية التي تطالب بتحقيقها شرائح اجتماعية واسعة. وذلك إضافةً إلى تمسُّك فئات اجتماعية متنوعة بالموروث الثقافي التقليدي. وإن كانت تلك النخب قد تجاهلت، لدواعٍ سياسية، تأثيرات الليبرالية الاقتصادية، فإن السلطات السياسية ومنها القومية قد زاوجت بين سياسات ليبرالية تحقق مصالح رجالات السلطة السياسية والمالية، وبين محاربة الحريات السياسية.
وتزامن فشل التيارات المذكورة، مع ركود الفكر الديني، وإغلاق أبواب الاجتهاد أمام أصحاب النزعة التنويرية. وتزامن كذلك مع استخدام الدين وتوظيفه من قبل حركات إسلاموية دعوية و«جهادية» لتبرير مشروعها السياسي بهدف القبض على الحاضر ومصادرة آفاق المستقبل. واتضح ذلك جلياً في دول «الربيع العربي» والعراق. وفي السياق شهدت مجتمعاتنا ظهور أجيال من الأئمة والفقهاء الذين يدينون بالولاء للحكام، وساهم هؤلاء في تبرير وشرعنة ممارسات رجال السلطة الفاسدين، وأيضاً بتضليل فئات اجتماعية واسعة.
لقد شكَّل فشل التيارات الأيديولوجية الكبرى وتركيز الحكومات الغربية على حقوق العرب السياسية وتحويلهم الديموقراطية السياسية إلى قضية مركزية، إضافة إلى المآلات غير المتوقعة لـ«الربيع العربي» الذي فتح مرحلة جديدة عنوانها الدمار والإحباط، مدخلاً إلى تساؤلات تتعلق بمصير المجتمعات العربية وحقوقها المشروعة. وتثير هذه المعطيات أيضاً أسئلة أخرى عن قدرة مجتمعاتنا وقواها السياسية والمدنية على مواجهة أنظمة القمع والفساد وكيفية ربط ذلك بالتصدي لسيطرة رأس المال وأباطرة السوق أولاً. وثانياً، مواجهة سطوة الفقهاء الغارقين في اجترار التأويلات السلفية للدين، والتي أفضت في اللحظة الراهنة إلى تفاقم مظاهر الاحتراب الديني. وثالثاً يُطرح سؤال عن مواجهة هذه المجتمعات التيارات الليبرالية المحكومة بالتبعية للغرب، ورابعاً اغتراب اليساريين وعزلتهم عن واقع الجماهير العربية. أما أخيراً والأهم، فهو قدرتها على مواجهة المشاريع التفتيتية والتقسيمية التي تتعرض لها منطقتنا.
* كاتب وباحث سوري