مع بداية الأزمة في سورية وقف حزب الله أمام مشهد شديد التعقيد والضبابية. لم يكن سهلاً فيه تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود. مجهولية لطبيعة الحراكات الشعبية ومجراها وأهدافها وأبعادها. معطيات محدودة وغير كافية حول طبيعة تطور الأوضاع الميدانية. الوقائع تخضع لشتى أنواع التصفيحات والتبريرات. بيروقراطية وتوريات وغموض تعكس ميكانيزم النظام السوري وتقاليده وخصوصياته في نشر المعلومات. كل ذلك كان يضيّع على الحزب فرص معرفة ما يجري بنحو وافٍ لتحليله ووضع أسسٍ للتعامل معه حتى لو تبيّن أنّه الأكثر شؤماً وسوءاً في مسار التحدّيات التي واجهها منذ نشأته.جرت الأمور على قاعدة «الخطوة- خطوة» لفتح طريق للوصول إلى المعلومة الكاملة التي كان يحجبه عنها قناع من الدعاية والأيديولوجيا وطبقات مترسبة من اللاوعي السياسي والإعلامي داخل بنية النظام. تتسارع الأحداث ومعها الخطوات لاكتناه الواقع الذي لم يكن ليستحوذ كل هذا الاهتمام والتدّخل الخارجي لولا وجود مخطط يسير خلف الصورة الأولى للحراكات الشعبية وما أنتجته من إسقاطات ذهنية وتفسخات اجتماعية واختلالات طائفية شكلت البداية لما هو أعظم!
في الأيام والأسابيع الأولى للأزمة بدا حزب الله على تواصل مباشر مع النظام (الحليف الوفي) الذي يتشارك معه الثوابت والخيارات الاستراتيجية، ومع شخصيات معارضِة لها مآخذ وملاحظات نقدّية جذرية على أداء النظام خصوصاً على مستوى السياسات الداخلية والبرامج الاجتماعية والاقتصادية حيث التّماس المباشر معهما يمكن أن يُفسح المجال أمام توضيح النوايا بشكل أفضل وبالتالي وضع حلول سريعة لإنهاء الأزمة. تعامل النظام ببراغماتية عالية واستجاب لوساطة حزب الله ودول صديقة أخرى دعته إلى تبني مجموعة من الإصلاحات الفورية التي كان أبرزها حل الحكومة، رفع قانون الطوارىء، إلغاء محكمة أمن الدولة، تشكيل هيئة حوار مع المعارضة، إصدار قانون عفو عام، وغيرها من الإجراءات والقرارات التي فاقت ما كانت تطالب به المعارضة نفسها. لكن الشخصيات المعارضِة التي كانت بمعظمها مرتبطة بأجندات خارجية وسّعت ساحة مناوراتها لاستغلال النظام إلى أقصى حد ممكن، إلى أن ابتعدت بنحو كامل وتبنّت الخيار العسكري وإسقاط النظام بعد شهرين فقط من انطلاق الحراك الشعبي.
إلى هنا كان الحزب يؤكد في مواقفه الإعلامية على الحوار لاحتواء الأزمة ويشجع المعارضة عليه ويدعوها لعدم التورط في مسار عنفي صدامي لأنّ من شأنّه أن يُضعف سورية ويجعلها أكثر عرضة للخطر ومن دون مكاسب حقيقية للمعارضة، وهذا بالفعل ما كشفته التطورات لاحقاً وصولاً للمرحلة الراهنة التي لا يُعرف ما الحصاد الذي جنته أمام هذا الاختلال الواسع في مفاهيم الحياة والأخلاق والسياسة. ولا يكمن خبل المعارضة بعدم موافقتها إجراء تسوية تاريخية مع النظام بل سارعت إلى ربط أهدافها بمصالح دول إقليمية ودولية، وزجّت بنفسها في ساحة منافسة تاريخية بين المحور التركي في مواجهة المحور الروسي، وبين المحور الأميركي في مواجهة المحور الإيراني وما انفجر عنها من متغيرات في موازين القوى وانحلال للأحزمة الجيوسياسية القديمة، وفتحت ذراعيها لكل المجموعات الراديكالية الرديئة وغيلان الإرهاب التكفيري التي كانت تعمل لإقامة نظامها الإبليسي الخاص بها، ظنّاً منها أنّ نشر الفوضى واستجلاب الحركات المتطرفة بكل مغالاتها وتوّحشها سيدفع المجتمع الدولي إلى احتضانها. بيد أنّها لم تكن على دراية كاملة أنّ الدول المناوئة لسورية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية كانت تستعمل الجميع على حدّ سواء، المعارضة الإئتلافية التي أنشأت، من الفنادق التي تقيم فيها، حكومات على الورق، وكذلك المجموعات التكفيرية التي لها أهداف تتجاوز الساحة السورية كما هو الحال مع النصرة وداعش، وتستثمر كل هذيان ممكن، بمهارة شيطانية، لإرساء مشروع أعلى، يتمثل بضرب فكرة وخيار المقاومة إنْ كان من ينشدهما دولة أو شعباً أو فئة، وإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة تلحظ كل مستوياتها مصالح هذه الدول وامتيازاتها في التوازنات الجديدة.
لم تطل المدة حتى بدأت الشعارات المنددة بحزب الله تبرز إلى العلن وتنقلها وسائل الإعلام المختلفة. حزب الله لم يكن حينها قد انخرط بشكل مباشر في الحرب الدائرة في سورية، ولم تكن مواقفه ترّكز إلا على التهدئة واعتبار الشعب هو المرجعية الصالحة لأي تغيير سياسي ودستوري. مع ذلك تأجج الخطاب الطائفي بصورة دراماتكية، واستُحضرت فتاوى التكفير والانتقام والثأر، وجرى استدعاء مشوَّه ومبتسر للتراث الديني لتغذّي المخيال الجهادي الذي يقوم على نفي الإيمان والإنسانية عن الشيعة والعلويين وغيرهم من الطوائف الإسلامية والمسيحية لتبرير عمليات التطهير والقتل وكل الممارسة الانتقامية بحق المناوئين، وبدأ الخوف فعلياً على المقامات الدينية المقدسة وخصوصاً مقام السيدة زينب عليها السلام في غوطة دمشق التي هددت جماعات متطرفة بهدمه بعد فتاوى تُعطي المشروعية الدينية والمسوّغ الفقهي لهذا الفعل، في وقت لاذت المؤسسات الدينية الرسمية في العالمين العربي والإسلامي بالصمت، وتركت لهذه الجماعات أن تعلن بسفور، عن دوافعها الحقيقة وأهدافها في تقسيم المسلمين إلى أهل إيمان وأهل كفر ورِدة!
كانت نصوص التكفير التي يجري تسييلها على شكل شعارات وأناشيد وأشرطة مسموعة ومرئية لا تنضح بالكراهية فحسب بل تحمل شحنة عدوانية مبرأة من كل عيب ومساءلة وشبهة. التكفير عبادة وشعيرة دينية يُتقرب بها إلى الله وليس مجرد عقيدة سلالية ينقلها جيل إلى جيل آخر لتحديد دائرة الإيمان وهوية المؤمنين. التكفير بهذا المعنى ممارسة وأفعال وإجراءات مجالها الواقع، أي إنّها تنشد السلطة والحكم لتنفيذ شرع الله بحد السيف! لقد شدّت هذه النصوص الجهاديين الإسلاميين، خصوصاً مع إعلان القاعدة على لسان زعيمها أيمن الظواهري الشام أرض جهاد ورباط، من عزيمتهم للذهاب إلى سورية على اعتبار أنّ «عزّ الشرق أوله دمشق» مع تحديد مهمة إضافية بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسد هي القضاء على حزب الله.
مع الوقت بدأت تتجمع لدى دوائر الحزب السياسية والأمنية معلومات وافية عن الظروف الجديدة في سورية، ومن خلال تحليل شامل للعناصر الداخلية والخارجية وخطر الإرهاب التكفيري الذي نجح خلال فترة وجيزة في التموضع على الحدود الشرقية والشمالية للبنان بحشود هائلة تمهيداً لعملية اجتياح واسعة للأراضي اللبنانية كما بينّت ذلك لاحقاً التحقيقات الميدانية والمعلومات الاستخبارية.
وكان حزب الله حينها قد وصل إلى مجموعة من الحقائق والاستنتاجات:
اتضح باكراً أنّ الحراكات الشعبية توفّر المناخ الملائم
لبروز التناقضات الطائفية والقومية

ــ الحراكات الشعبية التي جاءت عقب فورة جماهيرية بدأت في تونس وامتدت بشكل سريع إلى بلدان عربية أخرى، وإن كانت لها مبرراتها الداخلية وانطلقت بدافع المطالبة بالإصلاح والتغيير في بنية النظام وتوسيع دائرة الحريات، لكنّها لم تكن خالصة من شوائب التوظيف الخارجي وممارسة الضغوط المنظمة من قبل دول قريبة وبعيدة للتأثير في الرأي العام لدفع سورية إلى متاهات السقوط في الفوضى التي عمت العالم العربي.
ــ اتضح باكراً أنّ الحراكات الشعبية توّفر المناخ الملائم لبروز التناقضات الطائفية والقومية والمناطقية والقيمية وتشكّل فجوات تمرّ عبرها جماعات مكتومة الطموح كجماعة الإخوان المسلمين مستعدّة لتغيير الهوية الوطنية والشخصية القومية من أجل الوصول إلى السلطة، ولم يكن يضيرها البتّة، هي أو غيرها، أن تُشعل النار من كل حطب، وأنْ ترتمي في أحضان المستعمر، وأن تقع في انزلاقات دينية خطيرة بلا تضجّر وانزعاج.
ــ شكّل انتصار المقاومة على العدوان الإسرائيلي عام 2006 ودور سورية البارز فيه، تحولاً كبيراً في معادلات القوة الإقليمية. نتائج العدوان أبرزَ المثلث الاستراتيجي (طهران- دمشق- الضاحية) بلون واضح، وولّد ظروفاً جيوسياسية ومناخاً نفسياً وثقافياً في العالم العربي والإسلامي جعل الصهاينة يستشعرون خطراً وجودياً حقيقياً للمرة الأولى منذ نشأة كيانهم، فعدوان تموز ونتائجه تعتبر من المقاييس الأساسية التي ساهمت في التطورات في سورية. كانت تلك المرحلة قاسية على القيادات الإسرائيلية التي عزمت على الثأر من سورية التي ساهمت في صمود وانتصار المقاومة، إذ في ضربها وانتاج نظام سياسي بقالب جديد ستتمكن «إسرائيل» من فك ارتباط المقاومة بسورية ومنع وصول السلاح منها إليه!
ــ إنّ من أخطر النتائج التي أعقبت «الانتفاضات» في العالم العربي بروز خرائط تُقسّم المنطقة إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية. لقد خرجت إلى العلن خرائط تمّ التصديق عليها في إطار التخطيط الاستراتيجي من قبل حكومات غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ، وذاع صيت أسماء لسياسيين ككوندليزا رايس ومفكرين كبار كبرنارد هنري لويس وعرّابين للـ«الفوضى الخلاقة» كبرنارد هنري ليفي عملوا على مشروع رسم جغرافية المنطقة على أساس أن تبقى «إسرائيل» هي الدولة المحورية التي تملأ كل الفراغات الاستراتيجية التي ستظهر خلال العمل على إنشاء «الشرق الأوسط الجديد»!
ــ إنّ إسقاط النظام في سورية لا يُراد منه النظام فقط، بل إنهاء آخر حلقات الصراع العربي الإسرائيلي الذي تمثله سورية، وصولاً إلى إسقاط القضية الفلسطينية من بورصة التداولات الإقليمية والدولية، وتحويل كل الإمكانيات والقدرات العربية والإسلامية نحو مجرى آخر وهو صراع «الأخوة الأعداء»، وحيث سيسمح هذا الوضع الجديد باستنزاف الطاقات المادية والبشرية لقوى محور المقاومة، وتوريط كل الدول العربية القديمة أو الناشئة باتفاقيات مع «إسرائيل».
ــ خرجت بعض الدول العربية كالسعودية وقطر والإمارات بدور المحرّض على النظام السوري والداعم للجماعات المعارضة والمسلّحة على حد سواء، ورافضة لأي حلول سلمية وتسويات يمكن الوصول إليها من خلال التشجيع على الحوار والتفاهم بين الأطراف المتخاصمة. لقد اضطلعت هذه الدول بدور بعيد عن المسؤولية القومية، وبلغة بديلة وغريبة وعالية في نبرتها وسقوفها السياسية والعسكرية، حيث ظهر ذلك بوضوح منذ الأيام الأولى للأزمة من خلال مواقفها السياسية المتشددة ودعمها العسكري لمجموعات كانت هي بنفسها تعتبرها من متفرعات «القاعدة» (المنظمة المصنفة لديها إرهابية).
ــ ظهرت المعارضة السورية بمعظمها على هيئة انتلجنسيا متنافرة، مفككة، حشوية، لا كجماعة متجانسة، متماسكة، يمكن أن تفكّر كالحكماء وتتأمّل بهدوء لمعالجة الأزمة، بل كموظفين يمارسون مهنة التحريض والتحريف والتعبئة السلبية لعسكرة المظاهرات وصولاً لإسقاط النظام. وعلى نحو سريع برزت ارتباطاتها الخارجية وتماهيها مع مصالح الدول الداعمة لها، ومسؤوليتها في التغطية على مشروع تقسيم سورية وتأجيج الصراعات بين السوريين على أسس طائفية.
ــ تهشّم سريع للقيم الدينية وتفكك مخيف للأطر الاجتماعية، وسقوط للقواعد الفطرية الإنسانية، وانتهاك للمقدسات تحت حجج وذرائع واهية، وفي ظل فوضى غير مسبوقة في عملية صناعة الفتاوى التي تبيح الذبح والسبي ضمن أقيسة فقهية شديدة الغرابة بدأت تنتشر داخل المجموعات المسلحة التي أخذت تقلّد النموذج «القاعدي» وترقص على إيقاعه وتتقاطع مع أولوياته وأهدافه!
ـ وصول أعداد هائلة من الجماعات التكفيرية إلى سورية تتبنى منظمومة عقائدية تقوم على أولوية قتل «الشيعة والعلويين والمسيحيين»، وهدم مساجدهم ودور عبادتهم ونهب ديارهم... ما أعاد إلى الذاكرة صورة المجازر التي وقعت مطلع القرن الرابع عشر الميلادي في منطقة كسروان (1305) بعد فتوى ابن تيمية التي أباح فيها دماء وأعراض الشيعة وعلى إثرها سميت المنطقة بـ«فتوح كسروان».
ــ الحرب في سورية بكل تفاعلاتها وتعقيداتها وملابساتها الداخلية والخارجية تشكل تهديداً مباشراً للمقاومة وجوداً ودوراً، وتشكّل تهديداً آخر للبنان كياناً ونموذجاً للتعايش بين المسلمين والمسيحيين وواحة للتفاعل الثقافي والتسامح الديني والانفتاح الحضاري. ومن المقطوع به أنّ الموجة الإرهابية التي تضرب سورية ستمتد إلى لبنان بفعل العوامل والتأثيرات الجيوثقافية والجيوسياسية والجيواقتصادية المتداخلة، والتي يمكن أن تعيد اللبنانيين إلى أجواء الحرب الأهلية أو أسوء منها.
ــ إسقاط النظام السوري ضرية قاسية لمحور المقاومة ومتغير كبير وخطير على موازين القوى التي نشأت بعد العام 2006. فالمقاومة، في حال سقوط النظام لن تحظى بمظلة أمنية إقليمية، وحليف يزوّدها بما تحتاجه في الصراع المفتوح ضد العدو الإسرائيلي، بل سيحدث تغيّر راديكالي هائل في العلاقة بين النظام الجديد وبين المقاومة، وهذا ما كشف عنه بعض أركان المعارضة برهان غليون، ما سينعكس حكماً على أدائها وسيكون من الصعب حينها الحفاظ حتى على التركيبة السياسية الداخلية والوضعية الأمنية اللبنانية التي سرعان ما ستنقلب لترفع من مستوى المخاطر والتحديات على المقاومة.
ــ في هذا المناخ المضطرب ظهرت أعراض التخبط وفقدان الاتجاه لدى الحكومة اللبنانية التي لم تحسن الموقف ولا التدبير في التعامل مع التطورات في سورية، وكذلك مع النشاط المتزايد لشخصيات سياسية ودينية ولمجموعات متشددة انخرطت في عمليات تهريب السلاح وتقديم الدعم اللوجستي وصولاً إلى المؤازرة البشرية ثم التخطيط لتحويل بعض المناطق اللبنانية إلى إمارات إسلامية تتبع في ولائها إلى أمراء في سورية أو العراق.
ــ إنّ المنطقة تحوّلت إلى ساحات صدام بين الدول الإقليمية والدولية في معركة نفوذ ومصالح جامحة، وبدأت معالم المنطقة السياسية والجغرافية تتغير على نحو هائل، وكرة النار تتدحرج بشكل سريع، والدولة اللبنانية عاجزة عن حماية الوطن ولا تملك ضماناً من أحد بعدم تمدد النيران السورية إليها، وليس لديها القدرة الكافية للسيطرة على هذا النمط من التوترات الداخلية التي تتغذى من صدام المصالح الجيوسياسية الخارجية إلا عبر تدخل المقاومة لمساعدة القوى الأمنية والجيش بنحو مباشر.
هذه الحقائق والاستنتاجات التي ذكرنا بعضها تشكل بمجموعها السياق المنطقي لتدّخل حزب الله في سورية والدور الذي لعبه في التطور المثير الذي نعيشه اليوم. لقد أفرزت هذه الحرب وما زالت تأثيرات مهمة على العلاقات والتوازنات الداخلية اللبنانية وعلى سياسات بعض الدول الإقليمية والدولية. وأدت المقاربات الواقعية وبمنطق الدفاع عن النفس إلى اقتناع مكونات لبنانية طائفية وحزبية وحتى جهات خارجية عربية وغربية بصوابية التدخل بناء على أحكام الجغرافيا وضرورات الأمن والمصالح. صحيح أنّ حزب الله لم يستشر احداً حين قرر الدخول إلى سورية كما لم يفعل ذلك حين انخرط في مواجهة العدو الإسرائيلي، ذلك أنّ أهوال الحرب وبشاعتها ومآسيها وارتداداتها في حالة الحرب ضد التكفيريين أو المحتلين الصهاينة أكبر من ملاحظات واعتراضات تصدر من هنا وهناك. الجماهير عندما تضغط عليها ظروف استثنائية وتشدّ أعصابها تحدّيات قاسية لا تعد تأبه لاعتبارات السلطة وكيفية صناعة القرار عبرها خصوصاً في بلد مثل لبنان الذي تُشكّل فيه طبقة السياسيين والزعماء التقليديين بنية محدودة القدرات ومحكومة في خياراتها لمصالحها الخاصة أو لداعميها من دول إقليمية أو غربية، بينما يمثل حزب الله حالة فريدة إن من جهة التركيبة الأيديولوجية والتنظيمية أو من جهة القدرات والخيارات التي جعلته شريكاً استراتيجياً أساسياً لدول إقليمية ولاعباً محورياً في معادلة التوازنات والخرائط والمصائر!
ملاحظة أخيرة: قد يقول قائل إنّ تغلغل البعد الديني في جهاز حزب الله الإدراكي هو الذي أطلق خيار الذهاب إلى سورية، وإنّ «الأطروحة المهدوية» تحديداً كانت أبرز محرَك لكسر قواعد وأحكام التاريخ والجغرافيا، وما راج عن «هلال شيعي» ليس إلا الترجمة لهذه الحقيقة التي ازدادت وضوحاً مع الحدث السوري. صحيح أنّ «الحلم المهدوي» يوفر مخزوناً هائلاً للوعي الغيبي الشيعي ووقوداً معنوياً في مواصلة الجهاد في ساحات قريبة أو بعيدة، ويجد كل من يدرس الثقافة الحزبية لمناصري حزب الله انعكاسها القوي على مستوى الواقع والتاريخ، لكن ما كان يحكم الدخول إلى سورية ليس الإسقاطات المهدوية وإن كانت جذورها ضاربة في عمق الأعماق، وانّما الظروف والمتغيرات السياسية والاستراتيجية. الوضعية الجيو- سياسية للحزب دخلت في عملية تكامل مع القوتين الاقليميتين السورية والايرانية ليس في إطار التقاطعات الدينية والحدس المهدوي وإنما بسبب الرؤية العلمية والتحليل الاستراتيجي لمجمل التطورات التي يصعب على أي دولة أو قوة تجاهلها. أكثر من ذلك لقد كسر هذا التدخل بعض الصيغ المجازية وأعاد قراءة بعض النصوص في إطار فهم أوسع لحركة التاريخ وكيفية صناعته!
حزب الله اليوم قوة مركزية إقليمية، حقيقة علمية وسياسية لا يمكن نكرانها، تُلقي بثقلها في العلاقات والتوازنات الحالية. لقد شكل دخوله الحرب في سورية انتقالاً كبيراً من ساحة التأثير المحلي إلى ساحة التأثير الإقليمي، ومن قوة مقاوِمة للاحتلال الإسرائيلي إلى قوة محركِة وصانعة للأحداث والتاريخ على مستوى المنطقة كلها.
* كاتب وأستاذ جامعي