في الوقت الذي يزداد فيه الحصار على حزب «سيريزا» الحاكم في اليونان بغرض إرغامه على التنازل عن الشروط التي وضعها للتفاوض مع ترويكا الدائنين الأوروبيين تحدث مفاجأة على جبهة أوروبية أخرى وتضطرّ القوى المهيمنة هناك إلى استعارة الخطاب نفسه الذي استعملته نظيرتها في اليونان إبان صعود «سيريزا» إلى السلطة. هذه المرّة يُستعمَل الخطاب في مواجهة حزب «بوديموس» الذي حقّق نتائج باهرة في الانتخابات البلدية الاسبانية وضَمِن لنفسه حصّة وازنة من مقاعد التمثيل المحلّي، وخصوصاً في المدن الكبرى (مدريد وبرشلونة). قبل هذا الفوز كانت هنالك محطّة مفصلية، في 31 كانون الثاني الماضي، استطاع من خلالها الحزب حشد الألوف من مناصريه اعتراضاً على سياسات التقشف التي اتبعتها حكومة ماريانو راخوي اليمينية.
المسيرة كانت حاشدة وتخلّلتها شعارات أظهرت تضامن الحزب والحركات الاحتجاجية التي تناصره مع «سيريزا» الذي كان قد فاز بالانتخابات اليونانية لتوّه، والى جانب هذا التضامن حضرت أيضاً شعارات مثل «نعم نستطيع « و»تك تاك، تك تاك» التي ترمز إلى الوقت الفاصل بين لحظة الاحتجاج والتغيير المقبل عبر الصناديق. حينها خرج رئيس الوزراء الاسباني ماريانو راخوي ليردّ على هذه التظاهرة بالقول إنّ «بوديموس» يجازف بمصير اسبانيا تماماً كما فعل «سيريزا» من قبله باليونان وانه يكتفي ببيع الأحلام، ولا يقدر على تحقيق الوعود التي أطلقها للشعب الاسباني. لا يعبر راخوي في هذا الموقف عن حزبه الحاكم فقط (حزب الشعب اليميني) بل عن مجمل الطبقة السياسية الاسبانية التي أصبح وجودها مرتبطاً بالخضوع للإملاءات الأوروبية الخاصّة ببرامج التقشّف وتقليص النفقات الاجتماعية.

الخلفية التاريخية لظهور «بوديموس»

هكذا، غدت السياسات النقدية الأوروبية هي المحدّد الرئيسي لعمل الحكومات الاسبانية المتوالية، وقد تفاقم الاعتماد عليها بعد الأزمة المالية عام 2008 لتصبح الجهةَ الوحيدة التي يحقّ لها وضع الفيتو على السياسات الاقتصادية للدولة.
طوّر إلى جانب نظيره في
اليونان «سيريزا» نظرية الصراع
مع الرأسمالية
قبل ذلك كانت الأمور أفضل قليلاً، ولم تكن الاقتطاعات من مداخيل الطبقة الوسطى قد أصبحت كبيرةً إلى هذا الحدّ وهو ما يفسر تحدّر معظم المنتمين إلى حركة الاحتجاج التي عرفت لاحقاً بالغاضبين من هذه الطبقة. فالتغيرات التي طرأت على الدورة الاقتصادية بعد ذلك التاريخ أتت على حسابهم هم بالدرجة الأولى وهمّشت اعتمادهم المتزايد على الادخار وأموال التقاعد، الأمر الذي يعتبر مساساً بأهمّ الحقوق التي أمكن تحصيلها بعد زوال الديكتاتورية. إذ إنّ ما حصل غداة الانتهاء من الفاشية لم يكن ذا تأثير كبير على البنية الطبقية للمجتمع الاسباني، حيث ظلّت الأفضلية للطبقات الغنية «المعفاة من الضرائب»، ولم تستطع الطبقات الأخرى الاستفادة من الإصلاح السياسي المصاحب لعملية الانتقال الديمقراطي إلا بعد وصول الاشتراكيين إلى الحكم في عام 1982. فبوصولهم تحولت الديمقراطية السياسية التي أرست «التعددية الحزبية» إلى أداة لتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة، وبدأت الثروة بالوصول إلى مختلف طبقات الشعب، ما وسّع من نفوذ الطبقة الوسطى وجعلها تتحول إلى قاعدة «مستقرّة» للحكم حتى يومنا هذا. حصلت في ما بعد تغيرات بنيوية في الاقتصاد الإسباني قادت البلاد إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعجّلت في القطيعة مع «سياسات النمو» التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة وخصوصاً اليسارية منها. وعندما حصلت الأزمة المالية في عام 2008 كانت البلاد قد وصلت عملياً إلى حائط مسدود نتيجة للتراجع الذي أصاب عملية التراكم الرأسمالي، إذ لم يعد الإنتاج يصبّ في عملية توسيع المشاركة الاقتصادية، وأصبح همّه الأساس هو خدمة الفائض الذي يذهب بالكامل لجيوب المستفيدين من الانضمام إلى السوق الأوروبية، وهؤلاء كانوا دائماً تعبيراً عن قلّة، ما عوقّ حتى إمكانية الوجود الفعّال في السوق. على الأثر تراجعت نسب النمو كثيراً، وازدادت البطالة، وعادت الطبقة الوسطى التي تُعتبر الدعامة الأساسية لوجود الحكم إلى الانحسار. وبذلك تكون الفائدة التي جنتها اسبانيا من زوال الديكتاتورية والانتقال إلى التعددية السياسية قد انتفت، وبالتالي أصبحت العملية السياسية برمّتها موضع تساؤل، وهو بالضبط ما عبرت عنه أدبيات حركة الغاضبين التي اجتاحت الساحات والميادين في عام 2011 مستلهمةً كتابات المناضل والمفكّر الراحل ستيفان هيسيل.

تثمير الاحتجاج سياسياً

الغضب هنا ليس ممارسةً احتجاجية فحسب وإنما فعل منّظم يرمي إلى تأطير الاحتجاج وتحويله مع الوقت إلى آلية ضغط يمكن من خلالها إجبار الحكم والطبقة السياسية على التراجع عن سياسات الإذعان للاتحاد الأوروبي، أو في أفضل الأحوال إيجاد بديل يستطيع تصحيح العملية السياسية ومعاودة جعلها «ملكاً للشعب». في عام 2011 بدأ الفعل التراكمي عبر احتلال الساحات والميادين وأشهرها على الإطلاق كان ميدان «بويرتا ديل سول» في قلب العاصمة مدريد. استمرّت الاحتجاجات لمدة شهر كامل، وقوبلت من السلطة «بالتجاهل» و»عدم الاكتراث»، وأحياناً كانت السلطة تلجأ إلى القمع ولكن من دون التخلّي عن سياسة الاحتواء التي جرى التعويل عليها لتنفيس الطاقة الاحتجاجية وجعلها تذوي وتنتهي مع الوقت. أدرك الناشطون بعد انقضاء كلّ هذه المدة أن الرسالة من احتجاجهم قد وصلت ولا داعي بالتالي للاستمرار على الوتيرة نفسها من التصعيد لأنها ستضعهم في مواجهة الطبقات المتضرّرة من احتجاجهم وستضيّق رقعة المتعاطفين معهم بدل زيادتها، فعمدوا من تلقاء أنفسهم إلى إزالة المخيم وفكّ الاعتصام القائم في ميدان «بويرتا ديل سول»، على أمل أن يواصلوا الضغط ولكن بأشكال أخرى. هذه الأشكال تمثّلت في تسيير تظاهرات كلّ بضعة أشهر لإبقاء الضغط قائماً على الحكم وكانت القوى الاحتجاجية المسيّرة للتظاهرات تعمد بالتوازي مع رفع الشعارات المناهضة لسياسات التقشّف والداعية إلى توفير سكن لمن فقد منزله وفرص عمل للعاطلين إلى تأطير هذا الفعل لكي لا يبقى فقط مجرّد احتجاج ويذهب كما ذهبت معظم القوى الاحتجاجية التي قادت التظاهرات في مصر وتونس و...الخ. بقيت الأمور تتطوّر في هذا الاتجاه إلى أن أُعلن في شباط من عام 2013 تأسيس حزب «بوديموس» الذي سيقود ابتداءً من هذا التاريخ عملية نقل الاحتجاج من الشارع إلى الأطر الانتخابية التي تجرى عبرها المنافسة السياسية بين الأحزاب القائمة. وقد تجاوز «بوديموس» عبر هذا «الانخراط الشجاع» السياسات التقليدية لليسار الراديكالي والتي ترفض باستمرار أن تكون جزءاً من العملية السياسية التي تقودها البورجوازية الحاكمة، وبذلك يكون قد طوّر إلى جانب نظيره في اليونان «سيريزا» نظرية الصراع مع الرأسمالية، عبر جعلها أقلّ نخبوية وأكثر فاعلية وقرباً من الواقع وتناقضاته.

الصعود والنجاحات الانتخابية

هذه الفاعلية قادته إلى الانخراط في المؤسّسات القائمة ومحاولة تغيير سياساتها، وبعد أن كان عمله يتركّز على تصعيد النضال الجماهيري بشكل أساسي أصبح الآن يهتمّ بكيفية الاستفادة من هذا الزخم لجعل المؤسّسة التي يناضل من داخلها أقلّ انحيازاً إلى النخبة وشبكات الفساد السياسي. وأول محطّة على هذا الطريق هي الانتخابات الأوروبية التي أجريت قبل سنة من الآن، حيث استطاع فيها الحصول على خمسة مقاعد في البرلمان الأوروبي. ومنذ ذلك الوقت وهو يصعد في استطلاعات الرأي، ويتقدم في قياس المزاج الشعبي على الحزبين الرئيسيين في إسبانيا: حزب الشعب الحاكم والحزب الاشتراكي. ونجاحه هذا أقلق المؤسّسات الحاكمة في اسبانيا وأوروبا عموماً، إذ ليس من السهل عليها أن تتلقّى صفعة جديدة بعد الصفعة الأولى التي تلقّتها بوصول حزب «سيريزا» إلى الحكم في اليونان وشروعه في تغيير السياسات الاقتصادية التي وضعتها الترويكا الأوروبية لهذا البلد. ومن المتوقّع في حال وصول «بوديموس» إلى السلطة في الانتخابات التشريعية المقبلة أن يحذو حذو «سيريزا» ويبدأ في التراجع عن الخطوات التي أقدمت عليها الحكومات الاسبانية السابقة بدفع من بروكسل وبرلين. وحينها سيكون على الحزب الراديكالي الصاعد أن يكون مستعداً لمعركة من نوع جديد، إذ سيتحوّل الصدام مع المؤسّسات الأوروبية إلى واقع فعلي، ويبدأ بالتمدّد على كامل رقعة اسبانيا بعد اقتصاره لحدّ الآن على مدريد وبرشلونة حيث النفوذ الكبير لـ «بوديموس» وخصوصاً بعد الفوز في الانتخابات المحلية. المعركة هنا تكتسب أهميتها انطلاقاً من الواقع المحلّي الذي كرّسه الانتصار في الانتخابات البلدية وليس العكس، وهو ما يعطي لهذه الانتخابات طابعاً مفصلياً، على الأقلّ لجهة التمدّد الميداني وكسب الأرض في انتظار معركة الحسم في تشرين الثاني المقبل.

أهمية الفوز في المحلّيات

لم يعد «بوديموس» بعد هذا الفوز كما كان، فوجوده سياسياً في المشهد أصبح أقوى، وشبكة تحالفاته ازدادت متانةً مع حصول القيادية السابقة في حركة الغاضبين والناشطة اليسارية البارزة آدا كولاو على رئاسة بلدية برشلونة، وهي التي قادت طيلة السنوات الماضية الحراك ضدّ التيار المحافظ في المدينة بزعامة غزافيي ترياس. هذا التشبيك مع الرفاق السابقين والمنظمات الناشطة في الأقاليم والمدن ضدّ سياسات التقشف وطرد «المالكين» الجدد من ديارهم يضع الحزب الراديكالي على أرضية ثابتة ويسمح له بالتمدّد على حساب النخبة التقليدية المتمثلة في حزبي الشعب والاشتراكي. فالانتخابات الأخيرة «قضت» على النفوذ التقليدي لهذه الأحزاب في المدن الكبرى ووضعت قواعدها أمام خيارات ليس من بينها معاودة تكليفهم - أي الأحزاب - بتمثيلها سياسياً، وفي هذه الحالة ستكون القواعد أقلّ تمسكاً بالتصويت وفقاً للثنائية القديمة (شعب - اشتراكي) وأكثر استعداداً للتعامل مع «الائتلاف» الجديد الذي يقوده بوديموس، ويسعى من خلاله إلى تحسين ظروف معيشة الطبقتين الوسطى والشعبية. طروحاته الخاصّة بالمحافظة على وتيرة الإنفاق الاجتماعي والحدّ من سياسات الصرف التعسّفي والإبقاء على المدخرات والمعاشات التقاعدية تصبّ في هذا الاتجاه، وتحفّز شريحة واسعة من «المتردّدين» على وضعه ضمن الخيارات المتاحة في المرحلة المقبلة. هذا التغيّر الملحوظ في اتجاهات التصويت يدلّ على حجم الانزياح الحاصل في الخريطة السياسية.
وهو انزياح لا ينهي تماماً وجود الأحزاب القديمة أو احتكارها للسلطة، ولكنه يجعلها أقلّ قدرةً على التأثير، محتفظاً لها «بوجود رمزي» إلى جانب القوى الجديدة الصاعدة. التعددية الفعلية (لا الصورية) هنا تصبح هي الانجاز الأكبر لبوديموس وباقي التيارت اليسارية الراديكالية في اسبانيا، وعبرها سيتمّ الانتقال من مرحلة انتخابية إلى أخرى وصولاً إلى تسلّم السلطة بالكامل، وعندها ستكون المعركة الفعلية مع بروكسيل وبرلين قد غدت على الأبواب.
*كاتب سوري