أولويات أردوغان بعد فشل الانقلاب

  • 0
  • ض
  • ض

ما حصل في تركيا من انقلاب لم يبصر النور وما تلاه وما سبقه من تطورات في جوار تركيا طرح الأسئلة بشأن أسباب ما جرى والمآل الذي سيسلكه الوضع هناك، وبالتالي انعكاسات كل ذلك على الأزمات في المنطقة والعلاقات التركية مع دول الجوار.

أولاً: يمكن تفسير كل ما يجري من اهتزاز للاستقرار في تركيا ذات الموقع الجيو سياسي بين أوروبا وآسيا، وكذلك التوتر في العلاقات التركية ــ الأميركية والتركية ــ الأوروبية من دون ربط كل ذلك بما يحدث في سوريا من تطورات ميدانية وسياسية قلبت مسار الحرب على نحو جعل زمام المبادرة لينتقل إلى الدولة الوطنية السورية وحلفائها، والذي تعزز وترسخ مع الحضور الروسي العسكري.
من المعروف للقاصي والداني أنه في بدايات الأزمة السورية، تشّكل حلف غربي ــ تركي ــ عربي بقيادة أميركا، ولعبت فيه أنقرة دوراً رئيسياً من خلال تحوّل أراضيها إلى ممر للجماعات الإرهابية الآتية من جميع دول العالم، بتسهيلات من الاستخبارات الأميركية والغربية. وكذلك تحولت تركيا إلى قاعدة لتدريب الإرهابيين وتزويدهم بكل الأسلحة الممولة سعودياً وقطرياً.
في المقابل كانت حكومة حزب العدالة والتنمية تعقد الآمال الكبيرة على تحقيق تطلعات رجب طيب اردوغان في السيطرة على مدينة حلب وريفها في سياق السعي إلى استعادة أمجاد السلطنة العثمانية وصولاً إلى إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. وعلى هذه الخلفية كان الحلف الدولي الذي أنشأته أميركا، يعقد مؤتمراته بين الفترة والأخرى، لتوفير الغطاء الدولي الواسع للحرب الإرهابية على سوريا تحت غطاء دعم المعارضة لأجل تحقيق الإصلاح والديمقراطية والحرية، غير أن هذا الحلف فوجئ بعد نحو خمس سنوات من الحرب:
1 ـ بصمود وتماسك الجيش، فلم يحصل أن تمرد لواء أو كتيبة وظل الأمر محصوراً بحالات هروب ضباط وجنود على نحو إفرادي.
2 ـ وحدة الشعب العربي السوري وفشل محاولات إثارة الفتنة لتمزيق وتفتيت هذه الوحدة وتقسيم سورية.
3 ـ صلابة وشجاعة والقدرة على إدارة المواجهة التي تميزت بها القيادة السورية لا سيما الرئيس الأسد الذي رفض التفريط باستقلال وسيادة سورية وتمسك بثوابتها الوطنية والقومية.


أولويات أردوغان ستجعل علاقاته مع واشنطن وأوروبا في توتر مستمر


وجاء الحضور الروسي العسكري ليزيد من صمود سورية ويحدث تحولاً نوعياً في ميزان القوى ويقطع الطريق على خطط الغرب وتركيا والسعودية وغيرها من الدول، لإقامة منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة في شمال سورية، وإدامة حرب الاستنزاف ضد الدولة السورية وصولاً إلى إجبارها على الرضوخ والتسليم بالشروط الأميركية.
وأسهم هذا التطور في ميزان القوى في تحقيق أمرين:
الأول: عسكري، وتجلى في قيام الجيش وحلفائه بحملة عسكرية بدعم من الطيران الروسي أفضت إلى تحرير عدد كبير من المدن والبلدات.
الثاني: سياسي، وتمثل في أن هذا الإنجاز العسكري عزز موقف سورية وروسيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية ودفع واشنطن مضطرة إلى التسليم بوجهة نظرها بما خص شروط حل الأزمة، والتي عبر عنها في نتائج مؤتمر فيينا وقرارات مجلس الأمن الدولي والتي أكدت حق الشعب السوري في تقرير واختيار رئيس بلاده عبر صناديق الاقتراع وبالتالي تخلي واشنطن عن مطالبتها بتنحي الرئيس الأسد كشرط مسبق للحل.
أما التحول الثاني في مسار الأزمة حدث في الآونة الأخيرة، بعد أن فشلت خطة واشنطن وحلفائها في توظيف الهدنة لإحداث انقلاب في الميدان لمصلحة الجماعات المسلحة، وتمثل ذلك في:
1 ـ تحرير مدينتي تدمر والقريتين.
2 ـ تعزيز وجهة نظر روسيا في الدعوة إلى الفصل بين «جبهة النصرة» والجماعات التي تلتزم الهدنة.
3 ـ نجاح الجيش السوري وحلفائه أخيراً في إحكام الطوق على المناطق الشرقية
في مدينة حلب ما يجعل الجماعات المسلحة أمام خيار القتال حتى الموت أو
عقد اتفاق مع الجيش للتخلص من هذا الحصار القاتل.
ثانياً: هذه التطورات التي اضطرت واشنطن أخيراً إلى العودة للتسليم بما تطالب به موسكو من ضرورة تصنيف واضح للجماعات الإرهابية، كان من الطبيعي أن تنعكس بتداعيات سلبية على مشروع اردوغان وحلمه العثماني وعلى الداخل التركي وعلى العلاقات التركية الأميركية والأوروبية، وتمثل ذلك في ما يلي:
1 ـ ارتداد الإرهاب على الداخل التركي بتفجيرات هزت الأمن واستقرار، وانعكست سلباً على السياحة التي تعاني أصلاً من تراجع مستمر.
2 ـ تفاقم التوتر في العلاقات التركية ــ الأميركية بعد أن قررت واشنطن دعم الأكراد عسكرياً في الشريط المحاذي للحدود مع تركيا لمحاربة «داعش».
3 ـ تراجع معدلات النمو الاقتصادي في تركيا وتبدد سنوات الازدهار بسبب عودة المشكلات مع دول الجوار، وفشل رهان اردوغان على استعادة أمجاد السلطنة العثمانية انطلاقاً من السيطرة على سورية.
4 ـ اشتداد الصراع السياسي بين حكومة حزب «العدالة» والأحزاب المعارضة لسياسات اردوغان والتي حملته مسؤولية كل هذه التداعيات السلبية إلى جانب الاحتجاج على محاولاته تعديل الدستور لمركزة السلطة بشخصه.
ثالثاً: يبدو من الواضح أن الانقلاب المرتبك الذي نفذه ضباط في الجيش التركي جاء على خلفية هذه السياسات ولم يكتب له النجاح لعدة أسباب أبرزها:
1ـ عدم وجود تخطيط جيد للانقلاب فهو كان أقرب إلى كونه خطوة مراهقة أقدم عليها بعض الضباط، وظهرت بوضوح في عدم إقدامهم منذ اللحظة الأولى على اعتقال المسؤولين الأساسيين في السلطة بدءاً باردوغان.
2 ـ عدم احكام السيطرة على كل وسائل الاعلام، وإقدام أحد قادة الانقلاب على إذاعة بيان رسمي عبر الإذاعة والتلفزيون.
3 ـ عدم التنسيق أو الاتصال بقيادات أحزاب المعارضة قبل القيام بالانقلاب لطمأنتهم.
إن عدم اتخاذ مثل هذه الخطوات الضرورية لضمان نجاح الانقلاب كانت هي السبب في التأسيس لفشله، وتمكين اردوغان وحزبه من العودة للامساك بزمام الأمور والقيام بانقلاب مضاد على الانقلاب.
رابعاً، الآفاق: من الواضح أن فشل الانقلاب وفّر الفرصة لأردوغان لوضع أجندته الداخلية فيما خص اسلمة تركيا واخونة الدولة والجيش موضع التنفيذ، وظهر ذلك من خلال تنفيذ حملة اعتقالات واسعة في الجيش والشرطة وإقالة عشرات آلاف الموظفين من وظائفهم. وتحت عنوان التخلص مما اسماه الحكومة الموازية التي اتهم جماعة فتح الله غولن بالوقوف ورائها، وحملها المسؤولية المباشرة عن محاولة الانقلاب وطالب واشنطن بتسليم غولن المقيم في أميركا. لكن مثل هذه الأجندة التي بدأ اردوغان بتنفيذها إنما تشكل في الوقت نفسه الأساس الذي يدخل تركيا في حالة من عدم الاستقرار السياسي والمجتمعي.
على أنه في المرحلة الراهنة فإن اردوغان وحكومته سيكونان غارقين في التركيز على أولويات أربع هي:
ـ إحكام السيطرة على الحكم والتخلص من الخصوم.
ــ مواصلة الحرب ضد حزب العمال الكردستاني في مناطق جنوب شرقي تركيا.
ــ التصدي لتصاعد وتنامي قوة أكراد سورية على ضوء الدعم الذي يحظون به من أميركا.
ــ العمل على تجنيب تركيا المزيد من التدهور في الوضع الاقتصادي وفي قيمة العملة.
لكن هذه الأولويات التي أجبرت اردوغان قبل حصول المحاولة الانقلابية على الاعتذار من روسيا وتطبيع العلاقات معها، وإرسال إشارات إيجابية باتجاه سورية والعراق، تجبر اردوغان على مواصلة هذا المسار وحتى ولو كان تكتيكياً، باعتباره السبيل للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية، والعمل على تحصين سلطته ومواجهة تنامي قوة الأكراد في تركيا وسورية. وهذا بالطبع سوف يجعل علاقاته مع واشنطن وأوروبا في حالة توتر مستمر، لا سيما أن الأخيرتين غير راضيتين عن سياساته لناحية الانفتاح على روسيا والاعتراض على التكتيك الأميركي في سورية، أو كان لناحية استخدام وتوظيف النازحين السوريين في لعبة ابتزاز أوروبا.
ولا شك في أن موقف موسكو وكذلك موقف إيران بعدم تأييد الانقلاب قبل فشله، سيلعب دوراً أيضاً في دفع اردوغان إلى توطيد علاقاته مع هاتين الدولتين لا سيما أنه لم يصدر مثل هذا الموقف من أميركا والدول الأوروبية الذين يعتبرون حلفاء استراتيجيين لتركيا، بل كانوا في حالة ترقب وكأنهم راغبون في نجاح الانقلاب لكنهم لا يريدون الاعلان عن تأييدهم له قبل نجاحه.
غير أنه بمعزل عما إذا كان اردوغان سيغيّر فعلاً من سياساته ويعيد النظر في موقفه من الأزمة في سوريا، فانه سيكون خلال الأشهر المقبلة مشغولاً في العمل على تحصين وضعه الداخلي وحاجته بكل تأكيد إلى تعزيز علاقاته مع روسيا، وهذا سوف يوفر الظروف المواتية للجيش السوري وحلفائه لحسم السيطرة على حلب وريفها.
* صحافي لبناني

0 تعليق

التعليقات