حتى نكون واضحين: دونالد ترامب ليس يمينياً، بل هو مجنون؛ هناك فرقٌ كبير. هذا خاصّةً أن الكثير من المعلّقين أضحوا يذكرون اسمه لدى الشكوى من صعود "اليمين" و"الشعبوية" في العالم الغربي، ويضعونه إلى جانب حركات أوروبية عنصرية، وفاشيين حقيقيين لهم تراث وأيديولوجيا. حتّى نتكلّم على ترامب بهذه الصيغة، أصلاً، يجب أن يكون لليسار ولليمين معنى واضح في السياق الأميركي الرسمي، والحال ليست كذلك.بالمعايير التقليدية لليمين الأميركي، صوّتت أغلب الكتل الجمهورية المتطرفة ــ المتدينون المهووسون، روّاد "الحرب الثقافية"، النخب المالية، إلخ ــ لمرشّحين غير ترامب؛ وسياسات ترامب "المتطرّفة" تتنافى بالكامل مع تقاليد اليمين الأميركي. ينادي ترامب بالحمائية الاقتصادية، فيما الجمهوريون، منذ أيام ريغان، يلتقون حول "الدولة المنمنمة" ودعم التجارة الحرّة. ترامب يطالب بعدم توريط أميركا في شؤون العالم وحروبه، بينما اليمين الأميركي، منذ الحرب الباردة، يزايد في العدائية وحبّ القتال والحملات الخارجية ــ واليمين الأميركي متديّن وإنجيليّ الطابع، فيما ترامب مستعدّ لأن يستخدم يسوع في نكتة.
في الحقيقة، قد تكون هيلاري كلينتون أقرب إلى الموقف الجمهوري المحافظ في "كلّ ما يهم" (الهجرة، السياسة الاقتصادية، السياسة الخارجية) من دونالد ترامب؛ ومَن يجعل من هيلاري "يسارية" لأسبابٍ "ثقافية"، لكونها تحظى بدعم الفئات المدينية الشابة أو لأنّها لا تقول كلاماً جارحاً في حقّ الأجانب (بل تضربهم بالطائرات) أو لنسويّتها المفترضة، فهو يؤكّد شكوكنا حول مفهومه عن اليمين واليسار. بهذا المعنى، قد يكون صحيحاً ما كتبه محمود المعتصم، على هذه الصفحات، عن أنّ انتصار الإمبراطورية والرجعية حول العالم يحتّم ــ وإن مرحلياً ــ موت اليسار الحقيقي، المثالي والثوري الذي يحمل مشروعاً جذرياً لتحرير الفرد، مترافقاً مع موت التديّن الحقيقي، الفردي والإيماني والفلسفي، في وجه طغيان النيوليبرالية والأصوليات.
أكثر من ذلك، يؤكّد المحللون والإحصائيون الأميركيون أنّ الفئة التي أوصلت ترامب لنيل الترشيح الجمهوري تشكّلت أساساً من "مستقلين"، غير مؤدلجين، ينتمون إلى الطبقة العاملة البيضاء، وقد كان كثيرٌ منهم إلى عهدٍ قريب يصوّت اعتيادياً للحزب الديمقراطي. وبحسب مقالٍ أخيرٍ لفرانسيس فوكوياما في "فورين أفيرز"، لا يصوّت هؤلاء لترامب لأنّه عنصريّ أو يمينيّ، بل لأنّه ــ على عكس الحزب الديمقراطي ــ تكلّم عنهم ببساطة، واعترف بمشاكلهم، وجعلهم في قلب حملته الانتخابية (أما الديمقراطيون، يقول فوكوياما، فقد استمرّوا بالاعتماد على "مجموعات هوية"، كالأقليات التي تعطيهم أصواتها من غير أن يفعلوا لها شيئاً، والشباب المدينيّين، والنساء، متخلّين عن قاعدتهم البيضاء القديمة وأي خطابٍ عن العدالة الاجتماعية).
لم يعد بالإمكان تجاهل العامل الاقتصادي، كتب فوكوياما، لسبب بسيط: يدّعي الباحث الأميركي أنّه، كما كان يجري الحديث في الثمانينيات عن تشكّل "طبقة سوداء مسحوقة"، تجذّرت فيها مشاكل البطالة والفقر والمخدّرات واجتاحت أحياءها، ولا تقدر على إنتاج أبناءٍ يخرجون من هذه الدائرة، فيستولد الفقر فقراً، فإنّ الطبقة العاملة البيضاء اليوم، أو جزءاً كبيراً منها، قد أضحت في موقعٍ مشابه.
اختُتم البارحة المؤتمر العام للحزب الجمهوري في كليفلاند، الذي أُعلن فيه رسمياً ترشيح ترامب باسم الحزب، وقُدِّم من اختاره لمنصب نائب الرئيس (حاكم ولاية إنديانا الذي لا يعرفه أحد)، وقد ألقى ترامب، في ختام المؤتمر، خطاباً استثنائياً في الطول، دام أكثر من ساعةٍ، أطلق به حملته نحو البيت الأبيض. كما وصف مسؤولون في حملة ترامب الخطاب، فإنّه كان محاولةً لتقليد خطاب ترشيح نيكسون عام 1968، حين وضع الأميركيين أمام "واقع" أمّةٍ على شفير الانهيار وانعدام الهيبة ــ داخلياً وخارجياً ــ ووعدهم، من جهةٍ أخرى، بـ"النظام والقانون".
لكنّ اللغة الدرامية التي استخدمها ترامب، والتي تلاقي حماسة غير قليلٍ بين الناخبين، لا تعكس، ظاهرياً على الأقل، مجمل الأوضاع في أميركا. تمكّن الاقتصاد الأميركي، إلى حدّ بعيد، من تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2009 وعاد إلى النموّ، وأداؤه اليوم أفضل بكثير من باقي الدّول المتقدّمة، مستفيداً إلى الحدّ الأقصى من سياسات التسهيل الكمي وانخفاض معدّل الفائدة وازدياد الطلب على الدولار. أمّا خارجياً، فإنّ موقع أميركا قد تعزّز، وفيما تواجه أوروبا هجماتٍ إرهابية بوتيرةٍ ترتفع باستمرار، لا تعاني أميركا (وبين مواطنيها ملايين المسلمين) من مشكلة إرهاب جدية.
من الواضح أنّ من يصوّت لترامب يرى صورةً مختلفة عن وضع بلاده، أو أقلّه موقعه الفردي فيها. و"شعبوية" المرشّح الجمهوري هي النتيجة التراكمية لانعدام العدالة في توزيع الثروة في أميركا منذ السبعينيات. يشرح فوكوياما أنّ النخبة الأميركية، والطبقة التي نالت تعليماً عالمياً وانخرطت في الاقتصاد الحديث والقطاعات المربحة، لا ترى أيضاً إلا الصورة الزاهية عن بلدها، فهي قد حصدت كلّ ثمار النمو وتحرير التجارة، وحازت مستوى أسطورياً من الرفاهية الجماعية ــ فيما كان أترابها البيض، الأقل تعليماً ومهارة، ينزلقون إلى حالة من الفقر وانعدام الأمان تشبه ما يعانيه الأقليات.
كلّ من عاش في أميركا في السنوات الماضية لا بدّ أنّه تعرّف إلى هذه الفئة، التي عايشتها عبر جيراني، وأصدقائي، في أوكلاند: رجلان في منتصف الثلاثينيات يثبتان أن كونك أبيض في أميركا لم يعد يعني امتيازاً مضموناً. حصلا على تعليمٍ جامعي ولكنّه غير نخبوي، فانحصرت فرصهما في وظائف قليلة المدخول. "إيريك" يعمل استاذاً للكيمياء، ولكن من دون تثبيت، في أصعب المدارس داخل الأحياء الفقيرة (وهو أصلاً عنصري ويكره السود)، فيما "كريس" يعمل "محقّقاً خاصاً"، يرسله الزبائن لتتبّع الناس ومن يغش في بوالص التأمين والأزواج المخادعين.
لا وجود لـ"الحلم الأميركي" لدى هذا الجيل ومع وظائف خدمية، موسميّة، غير مضمونة كأعمالهم، فإنهم سيكافحون لبناء بيتٍ وعائلة في ولاية مثل كاليفورنيا، وهم ــ إن فعلوا ــ سيعيشون في رعبٍ دائم من احتمال خسارة كلّ شيء في أيّ لحظة. الأسوأ هو أنّ المستقبل، أيضاً، لا يعدهم بالخير. حين طلبت من "كريس" أن يتفاءل وأن يتذكّر أنه في بلدٍ ثريّ مليءٍ بالفرص، أجابني بجديّةٍ نادرة: "وأي فرص تنتظر رجلاً مثلي، يتقدّم في السنّ ولن يصبح محامياً أو مديراً أو مهندس كمبيوتر؟ وبمَ يحتاجني هذا البلد؟". اقتناء السّلاح، بالمناسبة، هو من التقاليد الشائعة لدى هذه الشريحة، ولم يزده الانحدار الاجتماعي إلّا تجذّراً (حين اعتُقل "ايريك" وهو يهدّد طالباً في باحة المدرسة، فتّشته الشرطة ووجدته يحمل سكّيناً حربياً من الحجم الكبير، فكان دفاعه أنّ هذا أمرٌ طبيعيّ بالكامل، والسلاح هو لحمايته ويرافقه في كلّ مكان، ولا علاقة له بالموضوع الذي أمامنا).
خلال المؤتمر، الذي يُفترض به أن يوحّد القادة الجمهوريين خلف مرشّحهم، رفض "اليميني" تيد كروز أن يعطي دعمه لترامب، وطلب في خطابه من الجمهوريين "أن يتبعوا ضميرهم في التصويت"، في سابقةٍ انقلبت غضباً جمهوريّاً عارماً عليه. تقول "نيويورك تايمز" إنّ كروز، بعد خطابه الشهير، توجّه إلى الحفل الذي يقيمه الملياردير الجمهوري ــ الصهيوني المتطرّف ــ شلدون آدلسون في جناحه الفخم خلال المؤتمر، فطُرد من المكان، وجاءت مساعدة لـ"آدلسون" لتخبره مباشرةً بأنه غير مرحّبٍ به وعليه الانصراف.
يستمرّ ترامب في الاستثمار في فقراء البيض، وهو ما يجعله المرشّح الوحيد في السّباق الذي يذكر المسألة الاقتصاديّة، وإن على صورة "قوميّة اقتصادية" قد يكون وقع عليها بالصدفة، ولكنّها وجدت صداها بين النّاخبين. أتفهّم أن ننتقد ترامب لأنه كريهٌ أو غير عقلاني أو لا يفهم في السياسة، ولكن ليس لأنّه "يمينيّ متطرّف" أو لأنّه "شعبوي". وماذا تعني "الشعبوية" أساساً، من منظورٍ ديمقراطي؟ وكيف نميّز بين "حركة شعبية" وأخرى "شعبوية"؟ يكتب فرانسيس فوكوياما، في هذا الإطار، أن تعبير "الشعبوية" هو، ببساطةٍ، بدعةٌ أختلقتها السّلطة حتّى توصّف السياسات التي لها شعبية بين المواطنين العاديين، ولكن النخب لا تحبها.