حظي النظام السياسي التركي بتعاطف وتغطية منحازة إليه حتى عام ٢٠٠٢. كان الاعلام الغربي يُقدِّر في النظام التركي ليس فقط انعطافه الغربي بعد سقوط الامبراطوريّة العثمانيّة بل قدَّر أكثر تحالفه مع العدوّ الإسرائيلي خارقاً (آنذاك) اجماعاً من الدول الاسلاميّة. والتقدير الأميركي لتركيا منحها عضويّة في حلف شمال الأطلسي (طبعاً، إن مشاركة الحكم التركي العسكري في مكافحة اليساريّة والشيوعيّة في سنوات الحرب الباردة قرّبها أكثر من واشنطن). لكن محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة أعادت طرح مواضيع تتعلّق بالخصوصيّة التركيّة، إذا ما كان هناك خصوصيّة. وردود الفعل التلقائيّة والمتريّثة على محاولة الانقلاب تطرح مركزيّة موضع تركيا في الحسابات الإقليميّة والغربيّة. 1 ــ إن عمل الانقلابات ليس مستحيلاً لكنه بات صعباً جداً في العصر الحالي. نعود إلى المرجع الكلاسيكي عن الانقلابات، أي كتاب إدوارد لتفاك، «الانقلاب: دليل عملي» (والذي أعادت دار نشر جامعة هارفرد طبعه هذه السنة، والذي كان يمكن لقادة الانقلاب أن يتعلّموا منه) لنرى أن بعض الشروط الضروريّة لنجاح الانقلاب يصعب إنجازها في هذا العصر، خصوصاً في مجال الإعلام. يقول لتفاك: «إن السيطرة على دفق المعلومات الصادرة عن المركز السياسي هو السلاح الأهم في بسط السيطرة بعد الانقلاب» (ص. ١١٧، من طبعة عام ١٩٦٨). وكانت السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون هي المقدّمة الضروريّة للانقلاب. لكن كيف تجري انقلاباً في عصر تعدّد وسائل الإعلام وفي عصر إمكانية البثّ العالمي عبر جهاز هاتف محمول؟ هنري كيسنجر نصح الحكومة الإسرائيليّة في الثمانينيات في أوّل انتفاضة فلسطينيّة بطرد كل المراسلين الأجانب من الضفّة ومن غزة وفرض القمع والقتل بعيداً عن الكاميرات. لكن الكاميرات باتت في متناول الأيدي (لكن الافتراض أن العالم سيحتجّ على القتل والقمع المنقول اثبت بطلانه في حروب إسرائيل الأخيرة في غزة وفي لبنان —العالم الغربي يكترث فقط لمصالحه ومصالح حلفائه). لم يكن للانقلابين خطة لقطع الانترنت مثلاً كي يمنع أردوغان من تعبئة أنصاره، كما أن نجاح الانقلاب مستحيل بوجود أردوغان طليقاً. هذه من بديهيّات الانقلابات. كما أن الشروط الأساسيّة في السيطرة على المباني الحكوميّة المركزيّة (وفي وقت واحد متزامن) وفي إجهاض محاولة التعبئة عبر المنظمات الدينيّة والجوامع كلّها أخلّت بها الخطة الانقلابيّة الفاشلة. لم تكن الخطة الانقلابيّة على درجة من الجديّة، حيث أن الخطة لم تلحظ ضرورة إلقاء القبض على قادة البلاد. طبعاً، ليس الانقلاب مضمون النجاح: نحو نصف الانقلابات تفشل، وفق تجربة مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية.
ليست الأنظمة التي
تتمتّع بشرعيّة اقتراعيّة غريبة عن التسلّط

2 ــ نجحت دول الغرب في تصدير معايير وتصنيفات النُظُم، وفي الأزمات يتضح المدى الذي تجترّ فيه نخب الإعلام المحليّة هذه المعايير المستوردة. وتحليل الوضع في تركيا يعيد دوماً إحياء أحكام الاستشراق التقليدي، فتصبح كل مجريات البلد خاضعة للحكم على الإسلام وإدانته، أو للثناء عليه قليلاً في أحيان نادرة. أي أن تقدّم المسيرة الديمقراطيّة أو تراجعها يُحسب للإسلام وعليه. أي أن الإسلام هو دائماً عرضة للمحاكمة (كان عنوان كتاب لكمال الصليبي، في حقبته الاستشراقيّة الفاقعة، عن تاريخ سوريا في الحكم الإسلامي هو «محاكمة الامبراطوريّة»). لا يمكن تصوّر تحليل الوضع السياسي في دولة إسرائيل الاحتلاليّة ان يرتبط بالحكم على اليهوديّة —كدين. لكن تقرأ في الصحافة العربيّة في تحليل الوضع التركي الكثير عن الإسلام والحداثة. وهناك تعميمات عن فشل الإسلام في التزواج مع الديمقراطيّة بناء على ما جرى ويجري في تركيا. لكن لماذا لا نقرأ تعميمات عن اليهوديّة من قبل الذين يسقطون الأحكام على الإسلام بناء على مجريات سياسيّة؟ وحده الإسلام تحت المجهر، وفي المحكمة.
3 ــ لا علاقة للديمقراطيّة في حكم الغرب على تركيا. من طرائف الردود الغربيّة على الانقلاب التركي قول جون كيري: «من الواضح أن للـ«ناتو» متطلّبات (في العضويّة) فيما يتعلّق بالديمقراطيّة. وستقيس «ناتو» بالفعل ما يجري». لكن ديكتاتوريّة العسكر في تركيا في الماضي، والحكم الطاغي في الأردن والحكم الاحتلالي-الاستيطاني في فلسطين المحتلّة لم يزعج يوماً قادة «ناتو» أو معاييرها الديمقراطيّة. لكن الحكم الغربي على النظام السياسي في تركيا ازداد صرامة بعد صعود الإسلاميّين في السلطة. ومنظمّة «فريدوم هاوس» (الرجعيّة اليمينيّة والتي تأخذ في عين الاعتبار في تصنيف درجة الحريّة في دول العالم درجة الولاء للسياسة الأميركيّة وللاحتلال الإسرائيلي) صنّفت الصحافة في تركيا تحت حكم أردوغان «غير حرّة» فيما كانت درجة الحريّة «حريّة جزئيّاً» تحت حكم العسكر. ويذكر مَن عاش في أميركا في الثمانينيات مدى نفوذ الحكم التركي المتحالف مع إسرائيل في واشنطن. وكانت زيارات كنعان افرين إلى أميركا تحظى بتغطية متعاطفة. وكان تقييم المستشرق، برنار لويس، دوماً إيجابيّاً للحكم التركي وله مقالة من عام ١٩٩٤ بعنوان «لماذا تركيا هي الديمقراطيّة المسلمة الوحيدة» («ميدل إيست كوارترلي»، آذار ١٩٩٤)، قرّر فيها أن تركيا وحدها نجحت في تركيب نظام سياسي وذلك بسبب علاقتها الوثيقة بالغرب (كأن دول الخليج لم تكن على علاقات وثيقة بدول الغرب تاريخيّاً). ولا يأخذ لويس على الحكم العسكري استبداده لا بل هو يعزو له فضل تقدّم الحكم الديمقراطي في تركيا لأن الديمقراطيّة لا تستقيم عند المسلمين إلا بـ«جرعات» قليلة (ص. ٤٤-٤٦). ولويس لم يحذّر من الديكتاتوريّة إلا بعد صعود «العدالة والتنمية» (كان لويس يعقد خلوات مع كنعان أفرين عند زيارته إلى واشنطن).
4 ــ ليس هناك من حكم قطعي، عربيّاً أو غربيّاً، ضد الانقلابات. إن الدول الغربيّة لا تقف ضد الانقلابات إلا إذا كان توجُّه الانقلابيّين ضد المصالح الغربيّة والإسرائيليّة. كانت الولايات المتحدة متصالحة مع الانقلاب العكسري في هندوراس عام ٢٠٠٩، هذا إذا لم تكن هي وراء هذا الانقلاب. كما أنها عملت جاهدة لتدبير انقلاب عسكري لصالح شاه إيران بعد اندلاع الثورة عام ١٩٧٨ وهرب الشاه، كما أنها حاولت أن تفعل ذلك (بالاشتراك مع دول الخليج) في العراق حتى ٢٠٠٣، وفي سوريا حتى الساعة. وانقلاب السيسي بات حليفاً قويّاً لدول الغرب ولإسرائيل (يعلم السيسي ان ضمانة الحفاظ على الدعم الغربي للطغيان العربي يتطلّب مزيداً من التطبيع مع إسرائيل—وهذا شرط من شروط الكونغرس الأميركي). وبعض الذين أيّدوا انقلاب السيسي بحجّة أن مرسي المُنتخب ديمقراطيّاً هو غير ديمقراطي، عارضوا انقلاب تركيا بحجّة أن الانقلاب هو ضد الديمقراطيّة.
5 ــ التصنيفات بين نظم الحكم في التداول العام وحتى في التداول الأكاديمي ليست عمليّة بقدر ما هي سياسيّة. لقد طبخت الحكومة الأميركيّة (من ضمن المجمّع العسكري ــ الصناعي ــ الأكاديمي، الذي حذّر ايزنهاور من سطوته ونفوذه في خطبته الوداعيّة) مصطلح «التوليتاريّة» لوصف الأنظمة الشيوعيّة. ويستسهل الخطاب الليبرالي المستورِد في بلادنا إطلاق هذا التصنيف فقط على تلك النظم (وحتى على الأحزاب مع ان المؤتمر الأكاديمي الذي ولّد المصطلح في جامعة هارفرد في الخمسينيات كان واضحاً في إدراج معايير للحكم وليس للأحزاب خارج السلطة ضمن هذا التصنيف) المعارضة للمشيئة الأميركيّة والإسرائيليّة. وعليه، فإن الحكومة الأميركيّة التي — ثبت في إصدارات أدوار سنودن- تتجسّس على مئات الملايين حول العالم، والتي تؤثّر مباشرة ومداورة على كل جوانب الحياة للمواطن في كل دول العالم، تنجو من صفة «الشموليّة». والانقلاب قد يكون ثورة، أو قد يصبح ثورة، وفق معايير سياسيّة بحتة. والثورة ليست إلا انقلاباً إذا كانت في توجّهاتها معادية للمصالح الغربيّة (مثل «الثورة المصريّة» في عام ١٩٥٢). لكن لماذا تكون الانقلابات دوماً درجة أعلى في الأخلاقيّة من الأنظمة الديمقراطيّة؟ هناك أنظمة سياسيّة منتخبة أضيق في قواعدها الاجتماعيّة من بعض الانقلابات، مثل انقلاب ١٩٥٢ في مصر أو انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق. والديمقراطيّة في العالم العربي لا تختلف عن الانقلابات من حيث سلب أو تطويع إرادة الناس. ما حدث في تونس بعد سقوط بن علي يستحق ان يُدرج في خانة الانقلاب من حيث قدرة، أو إصرار، الحكومة الأميركيّة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج (عبر البنك الدولي وصندوق النقد العالمي بالإضافة الى أجهزة استخبارات الغرب وإنفاق انتخابي هائل، وغير خاضع للمراقبة) على تدبير تنصيب قوى اجتماعيّة رجعيّة متحالفة مع النظام السياسي البائد. والإنفاق الغربي والخليجي على شراء الأصوات ونشر الدعاية السياسيّة والتحريض الطائفي الفاعل (في بلد مثل لبنان) كفيل بتحقيق ما يمكن أن تعجز عنه الانقلابات العسكريّة. إن الفروقات بين الانقلابات العسكريّة وبين التغيير الديمقراطي في العالم الثالث هي فروقات شكليّة في الأزياء والتسميات فقط.
6ـ لا يمكن إنكار فضل الانقلابات العسكريّة في عدد من البلدان العالمثالثيّة. ان الانقلابات العسكريّة هي التي كهربت الريف ووزّعت أراضي على الفلاحين وأنشأت برامج رعاية اجتماعيّة وقوّضت من نفوذ الكنيسة او السلطات الدينيّة في بعض البلدان وعمّمت التعليم ومحت الأميّة (كان برنامج محو الأميّة العراقي من أفضل البرامج النموذجيّة في محو الأميّة حول العالم، وتعرّض لانتكاسة قويّة بعد «تحرير» الغزو الأميركي للشعب العراقي في ٢٠٠٣) وهي حرّرت المرأة من الكثير من قيودها. ليست كل الانقلابات على مقاس انقلابات البعث لكن حتى الانقلابات العربيّة قوّضت من دعائم حكم كان مرتبطاً بفئة اجتماعيّة ثريّة صغيرة خدمت كأداة استعماريّة (لكن المفارقة ان الانقلابات البعثيّة — وهي أسوأ نموذج للانقلابات وأفضلها في تقديم نماذج التعذيب والتنكيل— هي أيضاً ختمت بسلطة ذات قاعدة اجتماعيّة ضيّقة). والنفور الديمقراطي من الانقلابات مصطنع وهو يخدم دعاية أنظمة الخليج التي تميّز بين النظم العسكريّة وبين نظمها المتخلّفة كأنها هي تقدّم نموذجاً بديلاً صالحاً. والداعي الليبرالي، حازم صاغيّة، كتب قبل أيّام في موقع «الجمهوريّة»: «وفي ظنّي أن موقفاً إمبرياليّاً جديّاً يضغط على الأسد، بل يزيحه، كان ليفعلَ أضعاف ما تفعل النظريّات» (أما سمير فرنجيّة فيتحسّر لأن الحكومة الأميركيّة لم تجد عليه بغزو بعد غزو العراق، فيقول: «فلو نفّذت الولايات المتحدة تهديدها عام ٢٠١٣ وأطاحت الأسد، ربما ما كان العالم وصل إلى ما وصل إليه اليوم» — نسي أن يضيف أن المجلس الوطني لـ١٤ آذار الذي يعمل على تشكيله سيكون خير عون لأميركا لو غزت). وهؤلاء نفسهم لا يزالون ينوحون ذمّاً ضد التدخّل العسكري السوفياتي في أفغانستان، ينكرون ان النظام الشيوعي في كابول كان أفضل بكثير من الأنظمة التي توالت في أفغانستان برعاية غربيّة وخليجيّة.
7 ـ تنتظر أطراف النزاع في سوريا خلاصها من الخارج. الابتهاج الذي ساد في إعلام الممانعة (كاد أمين حطيط على محطة «الميادين» ان يعلنَ وصول حزب البعث إلى السلطة في أنقرة بعد ساعات قليلة فقط من تسرّب أخبار الانقلاب التركي) عكس درجة من التوق إلى عنصر خارجي يؤثّر على مجريات الأحداث. وهذه النظرة تسلب كل معارضي النظام السوري من أسباب وجودهم، كأن ليس هناك من أسباب داخليّة للمعارضة لا تتعلّق بالرعاية الخارجيّة للفصائل المسلّحة. وفي المقابل، ان التشبّث بنظام أردوغان من قبل الفريق السوري المعارض، والتهليل الديني والطائفي له، يثبت مدى خلوّ الأحكام من المعايير المستقاة من شعارات «الثورة» السوريّة. لو ان الانقلاب أتى من أجل زيادة دعم «الثوّار»، لكان الهتاف قد استبدل القلق في ساعات الانقلاب البطيئة.
8 ــ لم تنجح السعوديّة بعد في تثبيت دعائم نظام عربي إقليمي موحّد. لم تزل الخلافات العميقة بين محور دول الخليج. كانت وسائل الإعلام العربيّة مُعبِّرة عن خلافات في داخل المعسكر العربي الواحد. فالإعلام الإماراتي (المتمثّل، مثلاً، بـ«سكاي نيوز» العربيّة) كان متفائلاً بالانقلاب ومساعداً استخباريّاً فيه من خلال تسريب نبأ كاذب عن طلب أردوغان اللجوء في ألمانيا (وقد تكون التسريبة جزءاً من خطة الانقلاب)، كما كانت محطة «العربيّة» التي لم تخفِ ابتهاجها تغيّرت لهجتها في ساعات الانقلاب. الحلف بين محمد بن زايد وبين محمد بن سلمان يتعزّز، بالرغم من تحالف سابق لمحمد بن زايد مع متعب بن عبدالله بن عبد العزيز. لكن الإعلام السعودي سرعان ما تدارك الأمر وتصنّع استنكار الانقلاب —من منظور حرص آل سعود الصارم على الأصول الديمقراطيّة. الخلاف بين النظام القطري والنظام السعودي لم تردمه خلافة الابن لأبيه في قطر.
9 ــ باتت النخب الجامعيّة العلمانيّة في المدن وطبقة المهنيّين الحِرَفيّين في العواصم هي المُفضّلة عند المراسلين الأجانب وعند حكومات الغرب. هؤلاء هم المؤشّر على المُراد والمأمول في كل البلدان. وشباب «الثورة الخضراء» في إيران يجب ان يختصروا كل طموحات الشعب الإيراني، كما أن الشباب والمهنيّين العلمانيّين في راس بيروت أو الجميزة يجب ان يمثّلوا كل الشعب اللبناني، وهكذا دواليك. ولا تنطق النخب العلمانيّة المدينيّة في بلادنا إلا بخطاب الهيمنة الغربي، فيصعب الفصل بين خطاب المراسل الغربي المُتلقّي وخطاب الفرد المُتغّرِب الذي ينتظر التدخّل الغربي لتحريره. ومرجعيّة الغرب الأخلاقيّة باتت ثابتة عند المعارضين العرب (أو الكثير منهم): فيوجّه معارض بحريني أو سوري رسالة مفتوحة للرئيس الأميركي لظنّه ان الرئيس الأميركي لا يمكن ان يسكت على ضيم، أو أن يوافق على خرق لحقوق الإنسان، فيما هذه الحقوق لا تخرق في بلادنا إلا غالباً برعاية غربيّة وتسليم أو (و) تمويل غربي. ويصعب على المراسلين الأجانب تصديق مقولة القاعدة الاجتماعيّة الشعبيّة لأنظمة معارضة للمشيئة الأميركيّة. أو كما قالت باولين كايل (الناقدة الفنيّة الشهيرة في مجلّة «نيو يوركر» غداة نصر ريتشارد نيكسون في انتخابات ١٩٧٢): كيف يمكن أن أصدّق أن نيكسون فاز بالانتخابات وأنا لا أعرف أحداً صوّتَ له. ولهذا فإن التغطية الغربيّة تركّز دوماً على هؤلاء المحليّين الذين يتماهون مع مشيئة حكومات الغرب وحكومة العدوّ الإسرائيلي: تُرجمت كتابات علي سالم إلى الانكليزيّة أكثر بكثير من كتابات طه حسين.
10 ــ ليست الأنظمة التي تتمتّع بشرعيّة اقتراعيّة غريبة عن التسلّط، ليس فقط في دول الغرب وإنما في كل دول العالم. على العكس، إن التسلّط «الديمقراطي» أخطر من التسلّط الاستبدادي لأنه يتمتّع بشرعيّة سياسيّة تمدّ من أجله، وتسبغ على أفعاله وتعذيبه وقتله مصداقيّة عالميّة. إن القمع الذي تبع المحاولة الانقلابيّة في تركيا أصبح شاملاً، وطال كل قطاعات المجتمع والدولة في محاولة لاجتثاث المعارضة لأردوغان. والقول ان «الجيش» هو الذي قام بمحاولة انقلابيّة من قبل قطاعات في الجيش يتجاهل دور الميليشيا الخاصّة بأردوغان والتي أسبغت فعاليّتها في القتل والتعذيب والملاحقة والاعتقال — وكل ذلك بختم الدولة العليّة. وعندما قرّرت الحكومة الأميركيّة والحكومة السعوديّة بعد اغتيال الحريري أن الجيش لا يمكن أن يقوم بدور مضاد لدور حزب الله، قررت الحكومتان إنشاء ميليشيا «ديمقراطيّة» خاصّة بفئة سياسيّة-طائفيّة في الحكم اللبناني (ومواردها وتسليحها يأتي من خارج ميزانيّة الدولة) — باسم «فرع المعلومات». وفي كل دولة ديمقراطيّة عالم ثالثيّة، ترعى أميركا فيها أما الجيش أو قوى الأمن أو جهاز آخر في الدولة.
كان الإعلام الغربي
يُقدِّر في النظام التركي تحالفه مع العدوّ الإسرائيلي

11ــ لا علاقة للخلاف العربي المحتدم حول تركيا بالموضوع الفلسطيني. فالنظام الإسلامي أعلن عودة التحالف مع حكومة العدوّ الإسرائيلي (وثبت كذب أردوغان الذي كان قد وعد بإصرار أن لا عودة للتطبيع من دون رفع الحصار عن غزة — والشعار هذا ذو سقف متدن جداً، لكن أردوغان تخلّى عن هذا الشرط بالكامل، وتحقّق لإسرائيل ما كانت قد أصرّت عليه: تطبيع وتحالف أمني كامل من دون تنازلات سياسيّة). وبعد يوميْن فقط من إعلان فشل الانقلاب، صرّح مستشار أردوغان لتلفزيون إسرائيلي أن فشل محاولة الانقلاب ستقرّب بين تركيا وإسرائيل. أما فريق الممانعة الذي كان يترقّب بشوق وصول العسكر إلى السلطة، فكان سيجد نظاماً حليفاً للعدوّ الإسرائيلي وأقرب إلى الحكومة الأميركيّة من أردوغان.
12 ــ لا يزال الاتحاد الأوروبي يخادع ويماطل ويستعمل مسألة قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي لغايات الضغط السياسي. فقط عندما أراد الاتحاد أن يلجم من جموح أردوغان ضد أعدائه، عاد وتذكّر مسألة انضمام تركيا. وكان جيسكار ديستان أكثر القادة صراحة عندما أفصح عن السبب الحقيقي (الجلي) لاستثناء تركيا في الاتحاد.
13ــ ليس محسوماً أن قوى خارجيّة لم تكن عالمة، أو ضالعة بالانقلاب قبل حدوثه. لكن خطة الانقلاب لا يمكن الحكم عليها بالتسرّع أو الخفّة من دون معرفة تفاصيل ما جرى. هناك أحياناً عوارض وأحداث هامشيّة يمكن أن تفشّل انقلاب (حتى الطقس يمكن أن يلعب دوراً في ذلك).
14ــ أطنب عازفو الديمقراطيّة في بعض الإعلام العربي في مديح المعارضة التركيّة لأنها عارضت الانقلاب لأن ذلك دليل على القبول بالآخر. إن القبول بالآخر شعار مُغرض في عالمنا العربي، وهو —أي الشعار— يحظى بتمويل وتلحين من الاتحاد الأوروبي وأميركا لغايات لا علاقة لها بالديمقراطيّة. ولو كان القبول بالآخر شعاراً يعبّر حقيقية عن المشاعر السياسيّة الأوروبيّة والأميركيّة، فلماذا توضع حركات المقاومة في قوائم الإرهاب؟ أليست هي «الآخر»، أم ان «الآخر» هو فقط حليف التحالف الأميركي-الإسرائيلي.
15ــ للبشر في بلادنا أثمان وهي تخضع لحسابات بناء اللسان والعقيدة. إن معاناة الإسلاميّين في سجون الأنظمة الموالية للغرب (والموصوفة بالاعتدال) في بلادنا لا تحظى بأي تعاطف يُذكر في الإعلام الغربي. زجّ السيسي (ومبارك من قبله) بآلاف الاسلاميّين في السجون، ومن دون تهم أو محاكمات، لكن الزج بمواطن يتحدّث الانكليزيّة مع المراسلين الأجانب يمكن أن يحدث أزمة ديبلوماسيّة في العلاقة بين الدولة تلك وبين الدول الغربيّة. ومضايقة الأكاديميّين والصحافيّين المُتغرّبين تحظى بتعاطف لا تحظى به مضايقة الأكاديميّين والصحافيّين الإسلاميّين.
16ــ باتت معالم تحالف إقليمي جديد تنجلي: إن محوراً سعوديّاً - إسرائيليّاً - إماراتيّاً برز في منطقتنا العربيّة وهو يقود الثورة المضادة. ولو صحّ ما قاله «مجتهد» قبل أيّام، فإن هذا المحور كان ضالعاً في محاولة الانقلاب التركيّة. ومعالم هذا الضلوع بدت واضحة في إعلام هذه الدول، وقد انتظرت حكومة العدوّ الإسرائيلي أكثر من ١٥ ساعة قبل إدانة محاولة الانقلاب (كما ان الحكومة الأميركيّة انتظرت إلى ان تأكدت من فشل المحاولة الانقلابيّة قبل ان تدينه — لعلّ وعسى).
إن الوضع في تركيا ليس معزولاً عن المجريات في باقي المنطقة العربيّة. والحرب على الإخوان المسلمين في كل العالم العربي مستمرّة ومستعرة، ويشنّها نفس الذين أووا وموّلوا وسلّحوا الإخوان في سنوات الحرب العربيّة الباردة. لكن إخوان تركيا أقوى من إخوان مصر، وقدرتهم على الرد أكبر. لكن الجمهور العربي تمتّع ولو لساعات بِتسالي لحظات انقلابيّة بات محروماً منها.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)