قديماً أكلت الفئران سدّ «مأرب» فانهار السدّ وانهارت مأرب وهوت. واليوم سقطت «تدمر» حين غزتها الجرذان، وكأنّ قلاعنا لا يسقطها إلا فأر أو جرذ. لقد ولّى ذاك الزمن الذي كانت فيه «بالميرا» مدينة المقاومين تشهد على عظمة «زنوبيا»، وهي تقارع على أبواب قلاعها «أورليانوس» الروماني في صراع مرير بين أرقى مدنيتين تتنافسان في الشرق القديم على امتلاك أسباب الحياة. فإذا بخرائب المدينة العتيقة أو ما تبقى منها يُكتب لها أن تشهد بحسرة على أبي بكر البغدادي وريث ممالك الظلام يعيد تأهيل المكان كلّه على صورة السجن الفظيع الذي آوته وتأويه «تدمر» الحديثة منذ عقود.
لا تشبه «تدمر» اليوم تلك التي كانت، ولا حتى غزاتها ولا حماتها يشبهون غزاة وحماة تدمر التاريخ التي هوت. فلا «أورليانوس» يمتّ لأبي بكر البغدادي بصلة، ولا فظائع سجن «تدمر» يحق لها أن تستذكر نُبل المليكة الأسيرة. فكلّ ما في المدينة ذليل أو حزين ولا يستدعي مرثيّة بل يستجدي الشفقة. لقد ضاعت المملكة وإلى الأبد منذ أن ساقت جيوش الرومان «زنوبيا» مكبّلة أسيرة إلى «روما» ومنذ ذلك الحين لم تجد من يرثها ويرث النُبل الكامن فيها.
لقد ضاعت المملكة وإلى الأبد
منذ أن ساقت جيوش الرومان «زنوبيا» مكبّلة أسيرة إلى «روما»

في حصارهم لـ «بالميرا»، تقول الأسطورة إنّ «بترا» ابنة الملكة العظيمة وقعت أسيرة في يد الرومان، فعرضوا المقايضة بين حياة الأميرة الصغيرة وبين فتح أبواب المدينة، وأبت حارسة الصحراء أن تخضع للمقايضة اللئيمة. فماذا عساها اليوم من خلف حطام ما تبقى تقول وهي تشهد على سهولة الفتح «الداعشي» وتدنيس ذكراها؟
غداً سيخرج كُثر يلطمون ضياع آخر أثر وستُكتب المرثيات الحزينة بعد أن تصبح كلّ الحجارة الشاهدة غباراً منثوراً حين تدكّ جحافل الإسلاميين أنصاب المكان لتطمس كلّ صنم ولتجعل منّا جميعاً أصناماً شاهدة على مذبحة عصر هو الأكثر ظلامية، طالما ليس هناك من بصيص نور واحد في هذا الصراع الذي يطوف بمجمله حول إله يكره الرسم والنحت والفن والتشكيل وإعادة التشكيل. ويهوى الجمود والقهر وسلب الحواس والإحساس وخنق الغرائز وكبت النزعات البشرية. لن يتغيّر شيء من الديكتاتورية سوى الصورة وقد كانت صورة بشرية استحالت مع الدواعش صورة غيبية. فأي جدوى من خرائب لمدينة كانت هي النور في موطن عشّاق الموت والظلام؟ فلن يكون هدم الأثر سوى دفن لجثة قتيلة لم يزرها أحد منذ عصور، فهي غريبة غربة المكان عن الحق والخير والجمال. حين تنهار أعمدة القلاع تحت مطارق أبي بكر البغدادي سنكتشف أن حكاية تزييف الحقائق قد شارفت على نهايتها، وأنّ تلك الأعمدة لا تنتمي إلى هذا المكان والزمان. بل أن المكان والزمان سيكونان أكثر شبهاً والتصاقاً بنا حين يحيط القحط بكلّ شيء. حينها فقط نستطيع أن نجزم أن تطورنا الداعشي قد اكتمل. فداعش ليس سوى الوليد الشرعي لأنظمة القهر والتجهيل والفقر والسجون الرثّة وتدمير العقل وإطلاق الوحش الكامن في الزوايا الأكثر عفناً من النفس التي عجزت المدنيّة عن ترويضها.
يكره الجرذ صورته في المرآة فينكرها، وقد يحطّم المرآة لو استطاع، لكنّ ذلك لن يُغيّر شيئاً في حقيقة الجرذان. وداعش ليس غريباً على الصورة بل هو في أصل تشكيله ولمن لا يريد أن يعترف فعليه أن يراجع سجلات سجن «تدمر» لو كان لذاك السجن من سجلات.
أياد المقداد