صحيح أنّ أشلاء ضحايا التفجيرات والمجازر التي يقوم بها «داعش» في بغداد ومدن أخرى تهيمن على المشهد الأمني والاجتماعي في العراق، ولكن التمعن العميق في هذا المشهد سيؤكد لنا أن الخطر الأكبر يستهدف العراقيين من العرب السنة أكثر من غيرهم على المدى البعيد. وهناك الكثير من الوقائع والأدلة التي تؤكد أنهم سيواجهون جدياً خطر الإبادة أو التهجير من بلادهم أو من مناطقهم ومدنهم داخل البلاد.فبعد سقوط الرمادي «غير المفاجئ» للبنتاغون، بحسب الناطقة باسمه إليسا سميث، والتي قالت إنهم كانوا يتوقعون سقوط الرمادي قبل شهرين، ولكن العاصفة الرملية في ذلك اليوم حسمت المعركة لصالح «داعش»، بعد سقوطها، يبدو أن الانقسام والتشتت العشائري قد تكرس تماماً في الوسط «العربي السني»، وأنه سيكون مدمراً لهم قبل غيرهم.

فالعشائر والمدن و البلدات انقسمت على نفسها بعمق مع أو ضد داعش وانتهى زمن الحياد، التطور الجديد والأخطر هو أن الانقسام والصراع الدموي انتقل الى داخل كل عشيرة وقرية وبلدة وأصبحت العداوات والثارات والدماء تسيل من شبكة بشرية معقدة ومأساوية. في مواجهة هذا الواقع انقسمت الزعامات السياسية التي تزعم تمثيل هذا المكون إلى قسمين متصارعين الأول، يشارك وينتفع من لعبة «العملية السياسية» القائمة على نظام المحاصصة الطائفية والعرقية مع استمراره بلعب دور الناقد والمعارض للتوجهات الثانوية للحكم بهدف زيادة حصصه من مغانم الحكم والقسم الثاني اختار المعارضة السلمية والمسلحة من منطلقات طائفية وفئوية ولم يتبنَّ حلاً أو مشروعاً وطنياً مناقضاً للحكم القائم. في جميع الأحوال، وسواء هُزم داعش في مدى زمني متوسط، أو تقدم وتمدد، فسينزف العراقيون في المناطق الغربية والشمالية المزيد من الدماء، وسيظهر العديد من المقابر الجماعية ومخيمات النازحين، وستشهد المدن والحواضر مزيداً من التدمير. ففي حال سيطر تنظيم داعش على أي منطقة أو مدينة جديدة، فإنه سينفذ مذابح بشعة بحق العشائر أو أجزاء العشائر التي قاتلت مع الحكومة أو بمفردها ودفاعاً عن نفسها لا عن الحكومة، ومجازر داعش بحق المئات وربما الآلاف من عشيرة البو نمر في هيت وعشيرة الجبور في صلاح الدين ونينوى حاضرة في الأذهان. وإذا سيطرت القوات الحكومية على مدينة أو منطقة وطهرتها من داعش، فستضطر العشيرة أو أجزاؤها التي قاتلت مع داعش الى الهرب والتشرد وتمنع من العودة إلى ديارها من قبل العشائر والسكان الذين انحازوا إلى جانب الحكومة كما حدث مع عدد من عشائر وبلدات صلاح الدين.
بل أن مأساة النازحين من العرب السنة من محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين بلغت درجة رهيبة، قد لا يستطيع البعض تصديقها داخل أو خارج العراق، ففي مؤتمر صحافي أعلنت النائبة ناهدة الدايني عن محافظة ديالى، أن النازحين من هذه المحافظات منعوا من العودة إلى مناطقهم وديارهم بعد السماح لعدد قليل منهم بذلك، وإن هذا المنع دفع النازحين في مخيم «عين ياوه» إلى تحميلها شخصياً رسالة إلى رئيس الوزراء حيدر العبادي يطلبون منه فيها أن يأمر بقصف مخيمهم بالطيران الحربي لقتلهم وإنهاء معاناتهم من التشرد والجوع والتسول
والإذلال!
لهذه الأسباب والوقائع وغيرها، فإن من يقول إن تنظيم الدولة/ داعش قتل وسيقتل من العرب السنة أكثر من غيرهم لا يجانب الصواب، وستكون حصة ساسة وزعامات هذا المكون المؤيدين أو المتعاطفين أو الساكتين على جرائم تنظيم الدولة وخصوصاً من المقيمين في فنادق عمان وأربيل من المسؤولية حصة ثقيلة جداً.
وإذا قيل اليوم، إن الخاسر الأكبر في هذه الحرب البشعة هو العرب السنة فيجب أن يصدق الناس ذلك ولكن هل ثمة من يسأل أو يتساءل: مَن هو المستفيد الأكبر من خسارتهم، ومن تضحيات إخوانهم من الطوائف الأخرى، وخصوصاً إقليمياً؟!
إن مجرد طرح السؤال يعني الحصول على مفتاح مهم لصندوق الفهم والأسرار. ويبقى الأمل معقوداً على الشجعان من شباب عشائر الغربية الذين يقفون في وجه مسلحي داعش و«الساسة الدواعش» للدفاع عن أهلهم وعراقهم!
ومع ذلك، ينبغي الاستدراك بهدف توضيح، أن المراهنة على قوة مسلحة مكونة على أساس إثني أو طائفي خطيرة جداً، خصوصاً في ظل حكم قائم على أساس المحاصصة الطائفية، وفي ظل دعوات دولية ومحلية علنية لتقسيم البلاد إلى دويلات طائفية، ولهذا فإن الأمل المعبر عنه بالكلمات السالفة، هو أقرب إلى التمني والطموح أكثر منه استشرافاً واستنتاجاً عقلياً معلَّلاً لكي يقوم شباب هذه المناطق بواجب الدفاع عن مناطقهم وأهلهم بما يتوفر من سلاح، وتنظيم أنفسهم على أساس جغرافي، وأدرك أيضاً أن مهمة كهذه ستكون صعبة جداً لأسباب كثيرة منها: أن هؤلاء المقاتلين الشباب من أبناء عشائر ومدن المنطقة الغربية والشمال كانوا وسيكونون مستهدفين من أطراف وقوى عدة، مباشرة أو بشكل غير مباشر، فهم مستهدفون من قبل عصابات داعش وخلاياها المسلحة النائمة في مناطقهم، كما انهم ضحية لخداع واحتيال «مقاولي الصحوات» الذين يريدون أن يغتنوا عبر المتاجرة بدمائهم وسلاحهم، وهم مستهدفون من قبل أجهزة الحكومة الأمنية التي لا تثق بهم لأسباب لا تخرج عن إطار «العُصاب الطائفي» ولا تريد لهم أن يتحولوا إلى قوة مسلحة ذات بأس ومستقلة عن حكم المحاصصة، بل تريد أن تجعل منهم ذراعاً مسلحاً من أذرع الأخطبوط التابع لهذا الحكم. وأخيراً، فهؤلاء الشباب سيكونون موضوعاً للاستهداف والمنافسة الفئوية من قبل القوى والميليشيات المسلحة للمكونات الطائفية والإثنية الأخرى. إضافة طبعاً إلى أنهم سيكونون مستهدفين من قبل جواسيس وعملاء الأجهزة المخابراتية الأجنبية الموجودة في مناطق نشاطهم.
وعلى هذا، فإن مهمة هؤلاء الشباب ستكون صعبة جداً رغم نبلها وبطولتها لأنهم لن يكونوا القوة الأهم التي يتعلق بوجودها، إضافة إلى عوامل وقوى أخرى، مستقبل منطقتهم وأهلهم فحسب، بل – وأيضاً - مستقبل العراق كله.
غير أن أي أمل بخلاص العراق وشعبه لا يمكن أن يكون ممكناً وواقعياً إلا على المستوى الوطني، وليس على المستوى الفئوي والجهوي والمكوناتي أو على الأقل على مستوى المكون القومي العراقي الأكبر والذي يشكل أكثر من 85 % من سكان البلد وأعني عرب العراق - طالما استمرت الزعامات الكردية بالانكفاء على ذاتها وطموحاتها القومية الاستقلالية - من أجل قيام قوة عراقية تستهدف إنهاء نظام حكم المحاصصة الطائفية والعرقية القائم في العراق قبل وأثناء وبعد عمليات التصدي للخطر الفاشي الذي تمثله عصابات داعش الظلامية. فكيف السبيل إلى اجتراح المأثرة الكبرى وتحويل هذا الأمل إلى عمل لإنقاذ العراق الموحد وشعبه الواحد في ظروف معقدة وبالغة الصعوبة، ظروف غاب فيها القطب الوطني والديموقراطي العراقي بشكل فاجع، وتحولت الحركة الوطنية التقليدية إلى مجرد تراث جميل يجتره البعض في الاحتفالات الحزبية، وقد انتحلت قوى طائفية متخلفة ومضادة لحركة التاريخ اسماء ورايات تلك الحركة الغائبة المغيبة، وفي ظل تدمير وتشويه الانتماء والهوية الحضارية العربية الغالبة للعراقيين بعد تجربة الحكم القومي البعثي طوال نصف قرن تقريباً من المجازر والخيبات تحت هذه الراية! وفي ظل تشويه وتدمير الانتماء والهوية الوطنية العراقية وإعلاء شأن الهويات الفرعية الطائفية في عراق ما بعد الاحتلال؟
كيف السبيل إلى هزيمة داعش ونظام المحاصصة الطائفية معاً؟ هذا هو السؤال التحدي، والذي كلما زادت صعوبته زاد نبل وعظمة الشباب العراقيين الذين يواجهونه بهدف تجسيده والإجابة عليه!
* كاتب عراقي