حين وقّعت الصين الشعبية، في سبتمبر من عام 1967، اتفاقاً مع تنزانيا وزامبيا لتمويل وبناء أطول خط قطار في القارّة الأفريقية، في تحدٍّ مباشر لأميركا والاتّحاد السوفياتي في آن، مثّل الحدث فاتحةً لطورٍ جديد في العلاقات الدولية. كانت الصين ما تزال في مرحلة "الثورة الثقافية"، وجزءٌ كبير من الريف الصيني لا يقلّ فقراً عن الريف الأفريقي نفسه، وكان التعهّد ببناء سكّة حديدٍ يفوق طولها 1600 كيلومتر أكبر مشروعٍ على الإطلاق تنفّذه الصين في الخارج، وبداية ظهورها على الساحة الدولية.قبل أن تعرض الصين تنفيذ المشروع، كانت تنزانيا وزامبيا (الحديثتا الاستقلال) قد جرّبتا الحصول على التمويل من الولايات المتحدة وأوروبا، والبنك الدولي، والاتحاد السوفياتي، ووجهتا بالرفض من الجميع حتى تدخّلت بيجينغ. القطار كان سياسياً بقدر ما هو اقتصادي، فزامبيا وتنزانيا كانتا البلدين الوحيدين اللذين حظيا بالاستقلال في الجزء الجنوبي من افريقيا؛ وكانت مناجم النحاس في زامبيا ـــــ وهي بلدٌ داخلي لا يطلّ على البحر ــــ مضطرّة الى نقل انتاجها لتصديره عبر روديسيا (زيمبابوي اليوم) أو افريقيا الجنوبية أو انغولا ــــ المستعمرة البرتغالية. فكان الخطّ موجّهاً، أساساً، ضدّ أنظمة الفصل العنصري في روديسيا وجوهانسبرغ، ويهدف الى التحرّر من البنى التحتية "الاستعمارية" السابقة، التي كانت متمركزة حول مناطق النفوذ الأوروبي، وبناء صلاتٍ محلية بديلة، وإعطاء زامبيا منفذاً بحرياً عبر دار السلام في تنزانيا.
مدّت خطوط القطارات في افريقيا منذ أواسط القرن التاسع عشر، ولكنها كانت، بلا استثناء، تتبع الخارطة الاستعمارية ومصالحها: وصل المدن الساحلية بمزارع المستوطنين البيض في الداخل، نقل المنتجات المنجمية الى مرافىء التصدير، الحلم الالماني ببناء خطٍّ يجمع كل المستعمرات الالمانية في وسط افريقيا (لم ينفّذ)، والمشاريع البريطانية المختلفة لتأكيد "ملكية" التاج لافريقيا عبر "خطّ امبراطوري" يمتدّ من النيل الى كايب تاون…
حين أنجدت الصين الرئيسين الافريقيين، نيريري في تنزانيا وكاوندا في زامبيا، وتعهّدت تنفيذ القطار، لم تكن المفاجأة في طبيعة الحدث فحسب، بل في اللغة التي استخدمتها الصين لتوصيف المشروع وأهدافه. في كتابٍ للأكاديمية الأميركية جايمي مونسون عن "خطّ الحريّة" ــــ وهو الإسم الذي أعطي للمشروع في حينه ــــ نجد صين تشو ان لاي وكلامها الواضح عن "محاربة الهيمنة"، ومدّ الصلات مع "اخواننا في افريقيا"، مع التأكيد على أن الصينيين والأفارقة يجمعهم تاريخٌ واحد من القهر، وبناء تحالفٍ في وجه العقلية الـ"نيوكولونيالية" والفوقية التي يعامل بها الغرب ــــ والاتحاد السوفياتي ــــ بلاد الجنوب.
المثير هنا هو أنّ هذا النموذج الفريد للتعامل بين الدول والتضامن بين الشعوب (والذي لم يعمّر طويلاً) لم يكن مجرّد كلامٍ وايديولوجيا. نفّذت الصين مشروع القطار على هدى "المبادىء الثمانية" التي كتبها ان لاي من اجل توجيه التعاون الصيني مع الدول الصديقة. بحسب مونسون، لم تؤثّر الدعاية الايديولوجية عميقاً على الأفارقة الذي عملوا مع الصينيين على بناء الخطّ، ولا يتذكّر كثيرون تعاليم الكتاب الأحمر الذي تمّ توزيعه بكثافة (مع أن النكتة التي سرت أثناء العمل تقول انّ العامل الافريقي الذي كان يتعب، كان يقوم ببساطة بفتح الكتاب الأحمر والاستلقاء في فيء شجرة متصفّحاً ايّاه، ولن يتقدّم أي من المشرفين الصينيين لحثّه على حمل المعول). الأثر الدائم الذي تركه الصينيون على التنزانيين، تقول مونسون، نتج عن مراقبتهم والعمل معهم وملاحظة كم هم جادّون ومتواضعون ومجتهدون.
المبدأ الثامن من مبادىء شو ان لاي كان ينصّ أن "على الخبراء الذين ترسلهم الحكومة الصينية… أن يحظوا بمستوى المعيشة نفسه الخاص بالخبراء المحليين. ولا يحق لهم أن يتقدموا بمطالب خاصة أو أن يحصلوا على تقديمات مميزة"؛ وقد تمّ تطبيق هذه الفكرة بالفعل. حضر الى تنزانيا للعمل على الخط ما بين 20 و50 ألف خبير وتقني من الصين، وقد كانوا ــــ جميعاً ــــ يقيمون في مخيمات العمل نفسها مع زملائهم الأفارقة، ويعملون في الظروف نفسها، ويدرّبون العمّال ويديرونهم في آن (المبدأ السابع كان يلزم الحكومة الصينية بنقل الخبرات كاملةً الى البلد الصديق، وليس تسليمه مشروعاً فحسب). حتّى نفهم معنى هذه السياسة في افريقيا، يكفي أن نراجع ما كتبته مونسون عن رحلة فريق الاستطلاع الصيني، الذي جاء في أواخر الستينيات، قبل بدء العمل، لتحديد طريق القطار واستكشافه. سار هذا الفريق في أدغالٍ كثيفة، وهضابٍ ووديان، ومناطق مهجورة بالغة الخطورة، وكان ينصب خلفه عيداناً من البامبو يعلوها علمٌ أحمر لتحديد المسار. ضمّ الفريق اثني عشر خبيراً صينياً يرافقهم ثمانية تنزانيين لحمايتهم ومرافقتهم؛ تقارن الباحثة بين هذه النسبة من المساعدين المحليين والبعثات الأوروبية السابقة، حيث كان الأوروبيون يُحملون، في كثير من الحالات، على أكتاف الخدم الأفارقة ويسافرون مع قوافل لخدمتهم، تفوقهم عدداً بأضعاف مضاعفة (حملة الكساندر غيب، على الطريق نفسه، عام 1951 ضمّت أربعة أوروبيين و56 خادما وعتّالاً أفريقياً، على سبيل المثال).
ما يغيب عن الكثير من أدبيات التنمية اليوم هي فكرة أنّ أهمية مشروعٍ وطنيّ ضخم، كقطار زامبيا ــــ تنزانيا، لا تقتصر على تسليم مشروعٍ مكتمل، بل إن عملية التنفيذ نفسها، وتنظيم العمل واشراك المجتمع فيه، والدعاية والتحشيد التي تحيط به، لا تقلّ أهمية وتأثيراً. هذا النمط، "المشاريع الوطنية"، اختفى ايضاً مع نهاية الحرب الباردة، حين أصبح البناء مسألة "تقنية" بالكامل، توقّع العقد مع الشركات الأجنبية، وتنتظر التسليم. الصينيون كانوا يعتبرون أنّ تدريب فرق العمل الأفريقية (والكثير منهم كان يحصل على وظيفة للمرة الأولى، وليس معتاداً على العمل براتب)، وتشجيعها على العمل الدؤوب وإنهاء مهامهم في وقتٍ قياسي سوف يعطي المواطنين السود الذي عاشوا تحت نير الاستعمار ثقةً بالنفس، وشعوراً بالانجاز، وبأن في وسعهم تحقيق ما يشاؤون بالاعتماد على ذاتهم.
أنهى العمال الصينيون والأفارقة "خط الحرية" قبل سنتين من موعده المقرّر، وقد تابع شعب الصين البناء عن كثب (فأحد أهداف المشروع، تقول مونسون، كان داخلياً صينياً، إذ أرادت القيادة تقديم مثال العامل الصيني المجتهد والناجح للعمال في الداخل)، فكان التلفزيون الصيني يتحدّث باستمرار عنه، حتى أن برامج الكوميديا والمسابقات صارت تحوي أسئلة عن تنزانيا، أو تعلّم المشاهدين كلمات بالسواحيلي، وتشرح تحديات العمل، وصعوبة حفر الأنفاق، ومخاطر الطبيعة ــــ على ما يبدو، كان الجاموس البري (لا الأسود أو الحيوانات المفترسة) أكثر من هدّد العمال على الخط، اذ كانت الجواميس عدائية وكثيراً ما تهاجم وتجرح العمّال.
يروي عاملٌ افريقي، ساهم في بناء الخطّ، قصّة تلخّص عقلية تلك المرحلة، ولغتها وآمالها، والفارق بين الأمس واليوم. حين أُصيب أثناء العمل وأخبر المشرف الصيني انّه لم يعد قادراً على الاستمرار، صرخ به "الرفيق" الصيني مشجعاً وآمراً: إعمل! سوف يستخدم شعبك هذا القطار! أمّك وأبوك سيركبان هذا القطار!"