بين يومي 23 و25 أيار 2016، زار الرئيس الأميركي باراك أوباما فييتنام. أخذ الزائر صورة مع الرئيس الفييتنامي وكان خلفهما تمثال رئيس جمهورية فييتنام الشمالية، هوشي منه، الذي قاد الحرب ضد الأميركيين (1964ـ 1973)، قبيل وفاته عام 1969. بالتزامن مع هذه الزيارة تم رفع الحظر الأميركي عن بيع السلاح إلى فييتنام، فيما أعطى الفييتناميون الأميركيين تسهيلات في قاعدة خليج كام ران البحرية ــ الجوية قرب مدينة هوشي منه (سايغون سابقاً عندما كانت عاصمة لفييتنام الجنوبية)، التي كانت خلال الحرب مركز انطلاق القاذفات الأميركية (بـ52) لقصف الشمال الفييتنامي. لم يكتف الرئيس الأميركي بزيارة العاصمة هانوي التي أصبحت عاصمة فييتنام الموحدة بعد الانتصار على الجنوبيين عام 1975، بعد أن كانت عاصمة للشمال الفييتنامي منذ تقسيم فييتنام (1954) إلى شمالية وجنوبية، بل حرص على زيارة العاصمة السابقة لفييتنام الجنوبية، التي تدخل الأميركيون عام 1964 عسكرياً لحمايتها أمام فييتنام الشمالية وذراعهم الجنوبية (الفييتكونغ: جبهة التحرير الوطني الفييتنامية)، ومنها خرج السفير الأميركي هارباً من سطح السفارة يوم 30 نيسان 1975، على حوامة حملته إلى سفينة أميركية راسية في عرض بحر الصين الجنوبي.كانت زيارة أوباما مليئة بالرموز. طي مخلفات حرب قضى فيها مليون فييتنامي مدني و700 ألف عسكري ومحارب فييتنامي من الشماليين والجنوبيين وحوالى ستون ألف عسكري أميركي. هنا، تلاقت براغماتية رئيس بلد مؤسس البراغماتية، وليم جيمس، مع النزعة العملية الموروثة والآتية من الماركسية عند قيادة الحزب الشيوعي الفييتنامي: لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، عند طرفين أصبح يجمعهما هاجس واحد هو الصين، التي كانت داعمة كبيرة لفييتنام الشمالية في الحرب ضد واشنطن قبل أن تستميلها إدارة نيكسون ــ كيسنجر عام 1972، لتعديل التوازن ضد موسكو، وهو ما أدى إلى ارتماء هانوي في أحضان الكرملين الذي أعطته فييتنام، في سنة حربها مع الصين عام 1979، قاعدة خليج كام ران التي تركها الروس وأخلوها عقب تفكّك الاتحاد السوفياتي أواخر عام 1991. كان واضحاً من الصورة التي جمعت الرئيس الأميركي مع نظيره الفييتنامي، وخلفهما تمثال هوشي منه، أن الحرب الفييتنامية ــ الأميركية قد أصبحت وراءهما، وهو ما تدل عليه زيارة أوباما إلى مدينة هوشي منه حيث كانت المدينة (سايغون) التي رمزت إلى الهزيمة الأميركية الوحيدة خلال تاريخها كله. عملياً، تدل تلك الصورة على أن هوشي منه، قد أصبح وراء الشيوعيين الفييتناميين وتدل زيارة أوباما إلى أن سايغون قد أصبحت من الماضي عند البيت الأبيض.
تجاه ذلك، لن يكون هوشي منه (1890ـ 1969) حزيناً، فمنذ تأسيسه عام 1925 لـ«عصبة الشباب الثوري الفييتنامي» كان يرى «الوطنية» هي الطريق لإنهاء الاستعمار الفرنسي، ولم يضع ماركسيته في تضاد مع «الوطنية» بل كان يراهما في بناء عضوي واحد. ضد الاحتلال الياباني لفييتنام (1940ـ 1945) سيؤسس هو شي منه «عصبة استقلال فييتنام» (لفييت منه) عام 1941، والتي رغم كون نواتها الأساسية كانت من الشيوعيين، غير أنها ضمت قوميين ومتدينين بوذيين، وهي أيضاً، المنظمة التي قادت النضال ضد الفرنسيين حتى هزيمتهم العسكرية في معركة «ديان بيان فو» عام 1954.
الطرفان أصبح
يجمعهما هاجس
واحدهو الصين

أمام تقسيم فييتنام الذي كان ثمن خروج الفرنسيين، رأى هوشي منه أنّ توحيد الوطن هو الهدف، وركّز من أجل ذلك في مواجهة حكومة سايغون من مركزه في هانوي. وقد رأى بأن كفاحاً ضد حكومة يمينية تضم الكثير من القوميين والمتدينين البوذيين، وقد كان الكثير منهم معه في «الفييت منه»، لا يمكنه الانتصار إن اعتمد على الشيوعيين وحدهم، لهذا أنشأ «جبهة التحرير الوطني الفييتنامية» (الفييتكونغ) عام 1960 لتقود الصراع ضد حكومة سايغون بالاعتماد على الظهير الموجود في هانوي، ولتتكون من شيوعيين وكاثوليك متدينين فقدوا حظوتهم التي كانت عند الفرنسيين بعد اضطهاد حكومة سايغون لهم. كما ضمت «الفييتكونغ» غالبية مزارعي حوض دلتا نهر الميكونغ والكثير من الأقلية الكمبودية التي عانت من اضطهاد قومي من حكومة سايغون.
كان الصراع بين هانوي وسايغون عبر «الفييتكونغ» سبباً في التدخل الأميركي العسكري عام 1964، وعندما جرى الانسحاب مع اتفاقية باريس عام 1973، ترك الصراع ليحسم خلال سنتين وتتوحد فييتنام، وكان الرمز لذلك تحويل سايغون إلى هوشي منه وتحول هانوي عاصمة الشمال ومركز هوشي منه إلى عاصمة لفييتنام الموحدة.
كان مليئاً بالرموز بعد التوحد القومي أن يتم دمج «حزب العمال الفييتنامي» في الشمال مع «حزب الشعب الثوري»، الذي كان حزب الشيوعيين الجنوبيين والمنضوي في «الفييتكونغ»، لكي يتأسس عام 1976 «الحزب الشيوعي الفييتنامي». هنا كان الشيوعي هوشي منه هو زعيم الكفاح الوطني ضد الفرنسيين واليابانيين وضد الأميركي والساعي إلى التوحيد القومي بعد التجزئة. مع إنجاز ذلك من قبل متابعيه في هانوي وفي «الفييتكونغ» عام 1975، كان ممكناً إبراز الصفة الشيوعية، وسعى متابعوه إلى تحقيق ما رمز إليه «الحزب الشيوعي للهند الصينية»، المؤسس من قبل هوشي منه وآخرين عام 1930، عبر السيطرة الفييتنامية على كمبوديا ولاوس، وهو ما قاد إلى الحرب الصينية ــ الفييتنامية عام 1979. هنا كانت الوحدة القومية مدخلاً للهيمنة الإقليمية الفييتنامية في المحيط الخاص بمنطقة الهند الصينية، وبعد إنجاز ذلك وضع الشيوعيين الفييتناميين هدف النهوض الاقتصادي، وهم رغم صدامهم مع الشيوعيين الصينيين فقد كانوا مثلهم في الإيمان بضرورة أن يقود الشيوعيون الثورة الرأسمالية في بلدهم وأنه لا يمكن الدخول في المرحلة الاشتراكية قبل اكتمال إنجاز متطلبات ومهام المرحلة الرأسمالية، في خطة تتوافق مع «البيان الشيوعي» لماركس وتتفارق مع لينين في «موضوعات نيسان 1917».
لم يقد هذا إلى تقارب بكين وهانوي رغم شيوعيتهما وتوحدهما في نهج «البيان الشيوعي» بالضد من لينينية لينين. هنا كانت الجغرافيا السياسية أقوى من الأيديولوجيا مثلما كان عليه الحال عند انفجار النزاع الصيني ــ السوفياتي عام 1960. قاد هذا إلى تباعدهما وإلى تقارب هانوي من واشنطن، التي رأت في عاصمة هوشي منه حليفاً ضد العملاق الصيني التي أصبحت الولايات المتحدة تراه الخطر الرئيسي أمامها في مرحلة ما بعد انهيار السوفيات، فيما رأى خلفاء هوشي منه في الأميركي، الكابح للصيني الذي أصبح نموه الاقتصادي مولداً عنده لطموحات سياسية ــ عسكرية في المحيط الإقليمي، مثلما كان عليه الأمر في ألمانيا ما بعد وحدة عام 1871، وما قاد إليه نموها من طموحات كانت هي الشرارة للحرب العالمية الأولى عام 1914 ثم الثانية عام 1939.
* كاتب سوري