«... الاستعمار لا زال في حاجة إلى أقلام يكتب بها، وإلى أبواقٍ يتكلّم بها، حتّى لا يُعرف خطّه، ولا صوته، عندما يخادع الجماهير الطيبة. وهذا يعني أن الَارَضَة المُتعلمة، لا زالت منتشرة في البلاد الإسلامية على وجه العموم. وقد عرفنا منها أصنافاً بالجزائر على وجه الخصوص». من كتاب «في مهب المعركة - إرهاصات ثورة» (ص 88-90)، لمالك بن نبي.بعد ست سنوات على احتفال فرنسا بالذكرى المئوية لاحتلالها للجزائر، كتب أبرز المثقفين الجزائريين، فرحات عباس، مقالاً بعنوان «فرنسا هي أنا»، في مجلة «الوفاق»، بتاريخ 27 شباط 1936. يقول فيه: «...لن أموت من أجل الوطن الجزائري، لأن هذا الوطن لا وجود له، ولم أكتشف هذا الوطن... لقد بحثت في التاريخ، وسألت الأحياء والأموات، وزرت المقابر، فلم يُحدّثني أحد عن هذا الوطن». كانت كلمات عباس تعبيراً عن أفكار «النخبة المثقفة» المطالبة بالاندماج التام للجزائريين في الأمة الفرنسية، مُنطلقاً من موقع المُنظِّر للواقع الاستيطاني الفرنسي، وليس القابل بوجوده فحسب. فعبارة «لقد بحثت في التاريخ» هي المفتاح الذي يُحيلنا على الهيمنة الثقافية للاستعمار، من خلال اختصاصات العلوم الإنسانية من تاريخ، وعلم اجتماع، وأنثروبولوجيا (أو أدب، خصوصاً الرواية كما يُفصِّل إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية»)، في إطار مؤسسات بحث بـ«جيوش» من المستكشفين، وضباط الجيش، ورجال الدين الذين قدموا بحوثاً ودراسات حول مختلف الظواهر الاجتماعية، والإثنية، واللغوية للشعب الجزائري، لتوظيفها لأغراض كولونيالية بحتة، وتلقينها عبر النظام التعليمي الاستعماري لأجيال من أبناء عملاء النظام الاستعماري (وهم ما تبقى من كبار المُلّاك، وزعماء دينيين مُوالين وموظفي الإدارة الاستعمارية).
نجد اليوم «نخبة مثقفة» من كل المشارب ترتبط بمنظومة خليجية متكاملة

وهذا ما دعا المفكر والمناضل الجزائري، محمد شريف ساحلي، إلى ضرورة التحرر من «مصادر التلقين» المرتبطة بمؤسسات الهيمنة الثقافية الاستعمارية، والبحث المُستقل عنها، في كتابه «تخليص التاريخ من الاستعمار». وسار في المنحى ذاته المفكر والمناضل، مصطفى الأشرف (كان مرافقاً لقادة الثورة الجزائرية على متن الطائرة التي اختطفتها السلطات الفرنسية في 1956)، في فهم الظاهرة الاستعمارية فهماً شمولياً يتجاوز النظر إليها، كحالة غزو ذو طابع عسكري محض. فحلّل في كتابه «الجزائر: الأمة والمجتمع»، في فصل «بسيكولوجيا غزو»، وحشية الجيش الفرنسي في حملات الابادة، التي قادها بعد 1830. ونَقَضَ مضمون الخطاب الاستعماري القائم (ككل خطاب استعماري وعلى رأسه الصهيوني) على نفي أي وجود ثقافي، أو حضاري للشعب الأصلي من جهة، وعلى «المُهمة التحضيرية» للاستعمار من جهة أخرى.
وفي حقيقة الأمر فإن «النخب المثقفة الجزائرية» كانت في معظمها تتعامل مع تبعية الجزائر لفرنسا، كمُسلَّمة غير قابلة للنقاش، على اختلاف مرجعياتها الفكرية من «ليبرالية»، كانت تدعو إلى المساواة واندماج «الأهالي» الكامل في الأمة الفرنسية، أو «يسارية» مرتبطة بالحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يرى بأن الجزائر لا زالت أمة في طور التشكُّل، تعيش في مرحلة ما قبل الرأسمالية. كما بقيت هذه النخبة أسيرةً لمقاربة ماركس، والتي تبناها بعد زيارته للجزائر، ومعاينته لـ«بداوة» و«توحُّش» الجزائريين، ولصوصية مُقاوميهم (وردت عبارة لصّ مسكين، وقاتل محترف من العرب، في وصف الشيخ بوعمامة قائد المقاومة الشعبية، جنوب غربي البلاد، في رسالة ماركس لصديقه إنجلز بتاريخ 18 نيسان 1882)، ما يجعل من الوجود الاستعماري ضرورة تاريخية لتهيئتهم لتقبّل الأفكار التقدمية، أو «إصلاحية» اقتصر «نضالها» على نشر «الدعوة» (وهي أولى بذور انتشار فيروس الوهابية في الجزائر)، وتفعيل التناقض مع الإسلام الجزائري الشعبي، ذي الطابع الصوفي. بل وحتى مثقفو الحركة الوطنية، الأكثر جذرية في مطالبها الرافضة للنظام الكولونيالي، كانوا يضغطون باتجاه التخفيف من حدة مطالبها، ويدفعون نحو «الحلول السلمية الرافضة للعنف»، وللتعايش والحوار مع «المعتدلين من المستوطنين»، وغيرها من الأوهام التي أسبغوا عليها طابع «العلمية» والتي نسفتها تلك الطليعة الثورية في 1954، عندما اعتمدت على أبناء الارياف الذين لم يُصِبهُم ما أصاب أبناء المدن من فيروسات «الثقافة الاستعمارية». ولم يعرفوا مع فرنسا، لا مونتسكيو، ولا جان جاك روسو، ولا فولتير، ولا مبادئ الثورة عن الحرية، والاخاء، والمساواة، إنما ترسخ في وعيهم ما انتقل إليهم من ذاكرة أجدادهم عن أسماء مجرمين، وقتلة مثل الكولونيل مونتانياك (الذي كان مُتحمِّساً لمشروع نقل الشعب الجزائري لجزر ماركيز) أو الجنرال شانغارنيي، أو الكولونيل فوري، وغيرهم كثير، ممن مارسوا كل أنواع الوحشية والتدمير (المصدر نفسه لمصطفى الأشرف، فصل «بسيكولوجيا غزو استعماري»).
ليس أداء «النخبة المثقفة»، ولا مشاريع الاستعمار الفرنسي في الجزائر، سوى نموذج عن طبيعة كل استعمار في كل البلاد المُستعمَرة. وسقوط الاستعمار بشكله التقليدي لم يُغيِّر أولاً من طبيعته الهيمنية. فالنخب الفرنسية الرسمية منها، و«المُستقلة»، بقيت وفيّةً لفكرها الاستعماري، كما تجلّى في النقاش الذي دار في فرنسا حول قانون 23 شباط 2005، والذي يتحدث عن «الدور الإيجابي» للوجود الفرنسي في المستعمرات. ثانياً، لم يمنع استمرارية أداء نخبة «المثقفين» الذين لم يتحرروا من «مُركّب التبعية»، لذات الدور في خدمة الاستعمار. فبقيت نفسيتهم مُستأنسة بكل ما يصدر عنه، في تجسيد فعلي للقابلية للاستعمار، كما يُسمّيها مالك بن نبي. فهي تقارب كل الظواهر الاجتماعية والثقافية عندنا، من زاوية رؤية الغرب ذات المضمون المركزي الاستعلائي -يُمكن أن نقرأ روايات، أو نشاهد أفلاماً خصوصاً في تونس، والمغرب، تُعزّز الرؤية الاستشراقية النمطية لمجتمعاتنا- وقد تصل إلى تماهٍ تام مع الاستعمار، إلى حد استدعاء الغزو لبلداننا، كما حدث مع «مثقفي» العراق في 2003. وكما أراد أترابهم أن يحدث في سوريا، في ذات السنة أو في صيف 2013، في «مهمة تحضيرية» جديدة عنوانها «نشر الديموقراطية». فهذه النخبة تُروّج للاستعمار، وتتبنى خطابه، وتُسفِّه أيّ خطاب مقاوم مضاد من الداخل. وتصنع وعياً مُشوهاً لتشكيل بيئة جاهزة لتقبُّل مشاريع الاستعمار. فهي بذلك «تأكل» مواضع المقاومة والوعي الثوري في مجتمعاتنا، تماماً كما تفعل حشرة الأَرَضَة.
تلك «الَأرَضَة المُتعلِّمة» (كما سمّاها مالك بن نبي)، التي تلبس أقنعة بيضاء استعمارية وتختفي وراء أسماء محلية، تُجسّد ظاهرة «الاستلاب الكولونيالي»، التي أبدع فرانز فانون في تشريحها. لم يصنع الاستثناء سوى فئة من المثقفين، الذين جسّدوا فعلياً دور «المثقف القطباني»، والذي كتب عنه هادي العلوي، كمحمد شريف ساحلي، ومصطفى الأشرف، ومالك بن نبي، وفرانز فانون.
لم يعد هذا الدور يقتصر على الاستعمار، إنّما انتقل إلى أدواته. فاصبح لهذه «الأَرَضَة المُتعلِّمة» مهمة جديدة هي خدمة «مصالح» الخليج، التي تعني في الأخير خدمة الاستعمار وفق العلاقة الوظيفية التي تربطهما. ومن المفارقات -التي تأكد مدى تماهي بعض هذه النخب مع الغرب الاستعماري- أن بعض النخب ذات النزوع اليميني، والعنصري في المشرق (لبنان خصوصاً) والمغرب (في الجزائر والمغرب خصوصاً)، والتي تأسست ايديولوجياتها بُنيوياً على ترسيخ الصور النمطية العنصرية عن البداوة والتخلف في الخليج في أذهان أنصارها، أصبحت اليوم تقف في ذات الخندق معه وتتبنى مواقفه ومشاريعه.
نجد اليوم «نخبة مثقفة» من كل المشارب الأيديولوجية ترتبط بمنظومة خليجية متكاملة، لصناعة وعيٍ مُشوّه، قوامها مؤسسات إعلامية ومراكز دراسات، وجرائد، و«هيئات عُلمائية». فأصبح للخليج «ناصريّوه» و«يساريّوه» و«ليبراليّوه»، وطبعاً «إسلاميوه المعتدلون». المهمة الجوهرية الجديدة للأَرَضَة المُتعلِّمة هي «أكل» المعاني الحقيقية المتبقية للمقاومة، والعروبة، والعدالة الاجتماعية، والإسلام الجامع، والعداء الفطري للصهيونية. تعويضها بمعانٍ مُشوّهة يتم إخراجها بحسب المشارب الفكرية لـ«صانعيها». فالتنظير لـ«عروبة الحزم» هي من اختصاص «ناصريو الخليج الجدد». و«النَّفَسْ الاصلاحي والليبرالي لملوك الخليج وأمرائه» هي من نصيب «الليبراليين واليساريين»، فيما «الحفاظ على بيضة الإسلام وحماية مقدساته من خطر الفرق الضّالة» هي لـ«الإسلاميين الوسطيين» حصراً. كَرَمُ الخليج يتجسد هنا في الرواتب العالية، أو في الدعوات لإلقاء المحاضرات في معارض الكتب، والمهرجانات الثقافية، وبالطبع في تأشيرات أداء الحج والعمرة (كشفت وثائق «ويكيليكس» التي نشرتها «الأخبار» نماذج من هذا). فلم يعد مستغرباً أن نجد مفكراً عربياً يسارياً يرى في ابن تيمية مُجدِّداً فكرياً في عصره. وأنه يستطيع أن يتأمل نهضة وديموقراطية في إطار فكري يكون الأخير جزءاً أساسياً فيه (ابن تيمية الذي لديه فتاوى تدعو الى إبادة اتباع مذاهب معينة)، أو أن تجد مفكراً «قومياً» و«عقلانياً» أمضى حياته في نقد «العقل العربي»، ويرى أن النهضة العربية كانت مع ظهور الحركة الوهابية.
إذاً، اكتملت سيطرة الخليج على مراكز صناعة الوعي. وأصبح بمقدوره أن يُوجِّه جمهوراً عريضاً يجمع بين طائفيين موتورين (لا يخجلون من إطلاق صيحات التكبير، مع كل قصف إسرائيلي يستهدف موقعاً للجيش أو المقاومة في سوريا)، ودعاة حريّةٍ يرون في غزو الاستعمار لبلدانهم خلاصاً لهم من «الاستبداد»، و«قوميين» يرون في قصف شعب عربي فقير في اليمن قمّة العروبة.
صار بإمكاننا اليوم أن نجزم بأنه ليس هناك مجال لبناء مشاريع نهضوية، ودول مستقلة دون الصدام مع الاستعمار وأدواته. لذا أصبحت تعرية وفضح هذا الصنف من «المثقفين»، الذين وضعوا انفسهم في خدمته، جزءاً أساسياً في هذا الصدام الوجودي.

* كاتب جزائري