بدايةً، نثقُ تماماً بإدراك كافة الفلسطينيين والعرب، وقسم كبير من الأجانب، عدم مساومة وتفريط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أي من الحقوق الفلسطينية. وهي مع تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة حتّى رفح. ومع تحرير كل الأراضي العربية المحتلة من دنس الإحتلال الصهيوني.نعم، نؤمن بأن لا تفاوض ولا تعايش مع هذا العدو، الذي يعترف بعضٌ من قادته بفاشيته. فلا لغة معه سوى المقاومة بكافة أشكالها، ووسائلها، على طريق اجتثاثه من جذوره. هذه هي استراتيجيتنا. لقد وقفت «الجبهة الشعبية» ضد اتفاقيات أوسلو المشؤومة والمدمرة، ولا تزال. هي حزب الفقراء، من أمنائها العامين حتى أصغر عضو فيها... كانت وستظل صمام أمان الثورة الفلسطينية، فوجهة بوصلتها، دائماً، باتجاه الجماهير الفلسطينية.
منذ انطلاقتها، وحتى اللحظة، حافظت وتحافظ وستحافظ على منطلقاتها الإستراتيجية، ونهجها السياسي. هكذا استمرت «الجبهة الشعبية»، وهكذا ستستمر. لقد استطاعت فور انطلاقتها استقطاب الجماهير الفلسطينية بشكل باتت تهدّد بالتفوق على التنظيمات القائمة، حينها. لذا تآمروا عليها، بتغذية بعض الإتجاهات فيها، للانشقاق عنها. وهذا ما حصل. «الجبهة» لا تهادن ولا تساوم أحداً، أيّاً كان، على تغيير ولو كان بسيطاً في نهجها. منذ انطلاقتها، وحتى اللحظة، تميزت بالمواقف الوطنية الواضحة، التي لا تقبل التأويل.
رفضت «الجبهة» اتفاقيات أوسلو وتوابعها، كإنشاء السلطة وعدم المشاركة فيها. رفضت من قبل اتفاقية «كامب ديفيد» ومن بعدها اتفاقية «وادي عربة». فهي تدعو إلى مواصلة قتال العدو، والاستمرار في الصراع، ورفض أيّة هدنة معه. لها موقفٌ مبدئي، وترفض الصراعات المذهبية، والطائفية، والإثنية في الوطن العربي. تربط بين الخاص الوطني والعام القومي، وتعمل على تعزيز العلاقة مع كافة القوى الديموقراطية، على الصعيدين العربي والعالمي. تُحدّد معسكر القوى الصديقة والحليفة، كما تُحدّد معسكر الأعداء. اعتبرت الجبهة أن حق العودة، وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كل الأراضي المحتلة عام 1967، حلٌّ مرحلي على طريق تحرير كامل فلسطين، وإنشاء الدولة الديموقراطية. ناضلت، وتناضل من أجل تشكيل «الجبهة الوطنية الفلسطينية»، العريضة، على قاعدة الوحدة الوطنية المرتكزة على الأسس الثابتة لحقوق شعبنا الفلسطيني.
كما تؤمن «الجبهة» بإنشاء «الجبهة العربية»، المساندة للثورة، والمناضلة لتعزيز التلاحم مع حركات المقاومة العربية، والعالمية، والقوى الديموقراطية والتقدمية، والإشتراكية على الساحة الدولية. تؤمن بمبدأ تغليب القانون الجدلي: صراع، وحدة، صراع في التعامل مع فصائل منظمة التحرير، على قاعدة عدم التفريط بالأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني.
فمنظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف) مُنجزٌ وطنيٌّ جماهيري فلسطيني. توجب فعالية مؤسساتها الدائمة، وتطوير آليات فعلها وإصلاحها، أساساً بالمراجعة الفلسطينية الدورية الشاملة. «الجبهة الشعبية»، وفي المنعطفات الفلسطينية الصعبة، وحين كانت الإنشقاقات تقع في التنظيمات الأخرى، وخصوصاً في «حركة فتح»، وحين سعى البعض لإنشاء تشكيل جديد موازٍ لـ«منظمة التحرير»، وقفت بكل إصرار وتحدٍّ لمنع هذا الأمر، باعتبار المنظمة الموجودة هي الإطار الجامع لشعبنا، في كل مواقعه في الوطن والشتات... وهي الممثل الشرعي، والوحيد، لشعبنا وفصائله. لها ميثاقها ودستورها، والنضال يحدّده أسسهما وهديهما. لذلك استمتنا في الدفاع عن الميثاق الوطني الفلسطيني بأشكال متعددة، حين ارتأى البعض إلغاء بعض بنوده الكفاحية، انطلاقاً من مقتضيات نصوص اتفاقيات أوسلو الكارثية. وحين كان القرار القيادي في الحركة، بوقف المخصصات المالية لأصحاب الانشقاق، تبنتهم «الجبهة الشعبية» مالياً لاعتبارات إنسانية بحتة، ودون قيد أو شرط.
استقطبت «الجبهة» فور انطلاقتها الجماهير الفلسطينية، حيث هدّدت بالتفوق على التنظيمات القائمة

في عددٍ من المحطات السياسية الفلسطينية، وإذا ما اعترضت «الجبهة» على نهج سياسي محدّد للمتحكمين، والمسيطرين، والمهيمنين على قرار المنظمة، بحكم سيطرتهم على كافة مقدراتها (وهي سياسة، حرص عليها هؤلاء المتنفذون في شؤونها)، كانت «الجبهة» تجمّد عضويتها في اللجنة التنفيذية للمنظمة، أو تعترض من خلال وسائل قانونية وديموقراطية، أخرى، من خلال عدم حضور هذا الاجتماع أو ذاك.
لطالما حوصرت «الجبهة الشعبية» بكافة الوسائل والسبل، بدءاً من الحصار المالي الأرعن، وصولاً لعدم إعطائها ما تستحق، سواء في العضوية لهيئات المنظمة كافة أو الحد المدروس، والمخطط له. وذلك للحد من حضور أعضائها في المؤسسات الفلسطينية التابعة لهيئات المنظمة! مثلاً، أتدري جماهير شعبنا الفلسطيني وجماهير أمتنا العربية، أن لـ«الجبهة الشعبية» في كل السلك الدبلوماسي لـ«منظمة التحرير» موظفا واحدا فقط... وأنّ المبلغ الذي تأخذه (12 ألف دولار) من أصل خمسة ملايين دولار، تدفعها المنظمة شهرياً لفرعها في لبنان! وأن مخصصات «الجبهة الشعبية» للطبابة من «الصندوق القومي» تبلغ 200 دولار فقط. وقد لا تكفي لأدوية مريض واحد من أعضائها في لبنان! هذا في ظل الحقيقة أن «الجبهة الشعبية وفقاً لقرار المجلس الوطني الفلسطيني، هي التنظبم الثاني بين التنظيمات المنضوية تحت لواء منظمة التحرير».
في الجانب السياسي، وقفت الجبهة الشعبية بكل أصالة وطنية لمنع انشقاق المنظمة. حاولت إعادة توحيد «حركة فتح» ووقف خلافاتها الداخلية، رغم أن الآخرين غذّوا كافة الانشقاقات التي حصلت في «الجبهة». وقفوا وراءها مالياً وإعلامياً واحتضاناً. لقد أصرّت «الجبهة»، وما زالت، على إجراء الانتخاب لجميع مؤسسات المنظمة، ومؤسسات الشعب الفلسطيني، الاتحادات – البلديات... وغيرها. أيضاً، حرّي التذكير بأن الذين اعتقلوا الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية»، القائد أحمد سعدات، ورفاقه منفذي عملية تصفية الفاشي العنصري رحبعام زئيفي، هي الأجهزة الأمنية للسلطة! الخطوة كانت المقدمة الحقيقية لاختطافهم من قبل العدو الصهيوني، ومعاناتهم القاسية، كما كل الأسرى في معتقلاته «الما بعد نازية»، والحكم عليهم بالمؤبدات. لتعلم جماهير شعبنا وأمتنا أن للجبهة الشعبية في المرحلة الراهنة، أكبر عدد من الأسرى في سجون ومعتقلات العدو الفاشي الصهيوني.
كما أن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» هي التنظيم الوحيد، الذي استقال أمينه العام الراحل، الرفيق الدكتور جورج حبش، من منصبه ليفسح المجال لغيره باعتلاء هذا المنصب. وأن «الجبهة الشعبية»، هي التنظيم الفلسطيني الأوّل، الذي عارض برنامج النقاط العشر السيّئ الصيت والسمعة! والذي يعد مقدمة حقيقية (كما فهمه البعض من الصانعين، والمهندسين لها) لاتفاقيات العار في أوسلو. رفضت «الجبهة» هذه الاتفاقيات الكارثية، وما تبعها من إفرازات عبثية كريهة. هذه التي ألحقت، ولا تزال، الدمار بالمشروع الوطني الفلسطيني، وبحقوق شعبنا الوطنية وقضيته النضالية. قدّمت «الجبهة» عشرات المبادرات السياسية لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتجاوز الانقسامات السابقة، والانقسام الحالي، بين حركتي «فتح» و«حماس».
طالبت، وتطالب، «الجبهة الشعبية» بإعادة الاعتبار للمنظمة، ومؤسساتها بعدما جرى تهميشها عمداً من قبل السلطة لمصلحة الأخيرة! هذا هو إيمان القائمين على السلطة! لكن لا تتوافر الإرادة السياسية للمهيمنين عليها، لاعتباراتهم الخاصة، بالطبع (وخاصة بعد وضوح حدود الحل الصهيوني، الرافض لمطلق حق وطني فلسطيني) لبدء هذا الإصلاح، وبالتالي ظل الإصلاح وإعادة الاعتبار للمنظمة ومؤسساتها شعارات فقط، لم يبدأ تطبيقها.
نعم، لا يقتصر التفرّد، والهيمنة، والاستئثار على الأموال وحدها في المنظمة، بل تتجاوزها إلى كافة مؤسساتها.
* كاتب فلسطيني