أذكر جيّداً في ذلك الصيف من عام 1993 مباشرة بعد انتهاء عدوان تموز الذي سمي حرب الأيام السبعة، أو عملية تصفية الحساب بحسب التسمية الإسرائيلية، كنت في عمر العشر سنوات وكان التقنين الكهربائي يحدد وقت مشاهدة التلفاز والكيفية التي تجري بها عملية المشاهدة، فكان بعض الأقرباء يأتون الينا لمشاهدة نشرات الأخبار، عندما يكون وقت التقنين عندهم والعكس صحيح.في ذلك اليوم كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لا يزال شاباً ثلاثينياً وفي أول سنواته كأمين عام لحزب الله. وفي إحدى نشرات الأخبار على قناة المنار عرضت كلمة للسيد تحدث فيها عن النصر، وأنّ المقاومة ستستمر حتى تحرير كل الارض اللبنانية. استهجن أحد الاقرباء الذين كانوا يشاهدون الأخبار، ما قاله السيد نصرالله، وقال هذا مجنون وسيودي بنا الى الهلاك. وأضاف «ناقصنا أولاد» ثم ارتشف من كوب الشاي في يده واستمرت النشرة.
لم يتصرف العرب مع المقاومة كإخوة وأقارب

هذا المشهد استحضرته في ذهني أكثر من مرة على مدار السنوات التي تلت، وصولاً الى عام 1996 وعدوان عناقيد الغضب... يومها خرجت المقاومة بنصر جديد وفرضت على إسرائيل معادلة القوة بالقوة، لكن في عام 2000 كان استذكار هذا المشهد مختلفت كلياً لأن «الشخص» نفسه الذي وصف السيد نصر الله بالمجنون، كان يرقص بجنون فرحاً بالتحرير، كان يريد أن يسابق السيارات وصولاً إلى الجنوب المحرر، وكان يتصرف مثل طفل فرح بلعبة أو هدية.
حالة هذا الشخص لم تكن استثنائية، فأكثر البيوت كانت ترى أنّ هزم إسرائيل أمنية صعبة التحقق، وأن تحرير الجنوب شيء من الخيال وضرب من الاستحالة، لكن مع الوقت أصبح واقع التحرير ملموساً أكثر وصولاً إلى تحقيقه عام 2000.
في السنوات التي تلت عام التحرير تحوّل السيد نصرالله إلى رمز للنصر والقائد الذي يرعب إسرائيل، أصبح اسمه يمثّل جزءا من منظومة السلاح الذي يحسب الاسرائيلي له ألف حساب. وعندما وعد بأنّ الأسرى سيخرجون من السجون الإسرائيلية تحقّق ذلك في عملية التبادل الأولى التي شملت كل الأسرى باستثناء الشهيد سمير القنطار.
في عام 2006، نفذت المقاومة وعد السيد نصرالله للافراج عن كل الأسرى في سجون الاحتلال، بتنفيذ عملية أسرى، وقتها تحدث السيد نصرالله عن أن الجنديين الاسرائيليين لن يفرج عنهم الا بالتفاوض غير المباشر والتبادل، وأكد أنّ المقاومة جاهزة للدفاع عن الأرض وحماية لبنان.
في ذلك اليوم أصدرت جامعة الدول العربية بياناً يشبه إلى حد كبير ما قاله ذلك «القريب» في تموز قبل 13 عاماً، وصفت فيه أفعال المقاومة بالمغامرات غير المحسوبة ولكن بعد شهر و3 أيام انتصرت المقاومة، وصمت من اتهمها بالمغامرة، وأصبح العداء للمقاومة هاجس بعض العرب لان تحقيقها للانتصار أظهر عجزهم.
لم يتصرف العرب مع المقاومة كاخوة وأقارب، وأصبحوا ينتظرون أي فرصة سانحة للانقضاض عليها وعلى من دعمها. والأخطر أنّ هناك من يحاول تدمير ذكرى المقاومة، لا يخصص أي وقت اعلامي للحديث عن ذكرى التحرير أو للتذكير بانتهاكات الاحتلال في الجنوب. أجيال «عربية» جديدة لا تعرف أن الجنوب كان مسرحاً لأكبر مواجهة مع إسرائيل وأول نصر حقيقي.
محاولات تشويه المقاومة وقادتها لم تستثنِ أحداً منهم، الأحياء والأموات، من أفنى عمره يدافع عن بلاده ولا من قضى عقودا في سجون الاحتلال.
اليوم بعد 23 عاماً يعيش ذلك القريب في قريته بالجنوب ويضع على سطح منزله علما لحزب الله، يلتقي عنده عدد من الجيران والأقرباء ليشاهدوا خطاب السيد نصرالله بمناسبة التحرير، ويتذكرون أن هذه الارض كانت ممنوعة عليهم في يوم من الأيام بسبب الاحتلال، وأنّ جنون ومغامرة بعض المقاومين أعادا الأرض إلى اصحابها، فهل يأتي يوم على من يهاجم المقاومة من العرب ويعود الى رشده ويعطي المقاومة حقها؟

* صحافي لبناني