أحزان منتصف أيّار

  • 0
  • ض
  • ض

في العنوان تقليد لبيانات أو وثائق للأحزاب السياسية في الوطن العربي، حيث تؤرّخ لإنتاجها المطبوع، في حينه، بأوائل أو منتصف أو أواخر الشهر المعين. قد تكون لأسباب فنية، تتعلق بظروف العمل الحزبي، أو الأوضاع السياسية ومحاولات احترام الآراء، وتبادلها، قبل الإصدار ونشره، في أغلب الأحيان.

ولكن هنا ليس بياناً أو وثيقةً حزبية، أو عنوان قصة للأديب الشهيد غسان كنفاني. وإنّما استذكار ومراجعات لهموم وأحزان عربية، في المنتصف من أيّار للعام الجاري.
قد تكون كلها في الفواجع المؤلمة، ولكنها أيضاً تشير إلى معنى التذكير بها، والاعتبار من سيرتها، بكل ما حملت من مآسٍ وأحزان. إنها جزء من التاريخ العربي المعاصر، وإعادة قراءتها، ولو تلميحاً، تهدف إلى محاولة إبقائها في دائرة الاهتمام اليومي والهم الإنساني، في القراءة والبحث والاعتبار. فدرسها يفيد باستمرار أهمية الاستذكار، والعمل على التغيير، والتمثّل بالنماذج التي استبسلت من أجله، بأيّة درجة كانت منه.
ففيه أو حوالى منتصفه، مرّت الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس _ بيكو (1916)، والتي مزّقت المشرق العربي، ونصّبت على أجزائه ما كذب رؤساؤهما عليهم، في مفاوضاتها مع أبيهم وأغرّتهم. ففرضتهم اختياراً واضطراراً. وفضحت هذه المعاهدة التي وقّعت ووضعت سراً، من خلف إرادة الشعوب، خطط الاستعمار ومصالحه، ومنافسته في المنطقة. فضحتها ثورة تشرين الأول الاشتراكية الروسية، عام 1917، ولكنها فعلت فعلها. وزرعت بذور الفوضى وشرور الهيمنة، ومحاولات الاستعباد والنهب للثروات والخيرات.. وتَبِع الفضيحة مساعي الانتداب البريطاني على فلسطين، وصولاً إلى قرار التقسيم (1948) وتطبيقه بما يخدم عصابات الاحتلال والاستيطان لصناعة كيان صهيوني عنصري، في قلب الوطن العربي وتدمير فلسطين. والإعلان الرسمي للتغريبة الفلسطينية، لتشريد الشعب الفلسطيني وحرق القرى والبلدات والمجازر والخراب... والتي سميت بالنكبة. وظلت تتوالد حتى يومنا هذا، نكبة ونكسة، وتطبيع وهرولة وسقوط في خاتمة الرواية. وما زالت فصولها متوالية والغضب منها ساطعاً!
بين هذين العنوانين، معاهدة/ اتفاقية سايكس _ بيكو، ونكبة فلسطين أحزان متواصلة، وآلامٌ، ومصاعب، ومخاطر، وانتهاكات للقانون، والحقوق، والمشاريع، والخطط للصهيونية والإمبريالية، ومن تخادم معهما من عرب المنطقة، أو جيرانها، للوقوف معاً اليوم في الذكرى. يستعيدون الكارثة أو يتفرجون عليها، وقد توالدت المحن إلى انهيارات، في تقسيم المقسم، وتجزيء المجزّأ، وتدمير المدمر. وشنّ الحروب المتواصلة، وإشعال الحرائق المنتشرة. كلها تلتقي في النهاية في الخراب العام للأمة، والوطن، ودماء الشهداء، والتضحيات الجسام.
كيف نعمل أمام هذين العنوانين؟ المخططين الاستعماريين لتدميرنا، ونهب ثرواتنا، وإلهائنا بمعاركنا، ودمارنا، وتضليلنا بسراب وعود وأضغاث أحلام لهم علينا؟! إنها محنة أخرى أو نكبة. إنها مصيبة أمة لا تكتفي بتقديم الضحايا، ولا تتوقف عند مصبّات شلالات دماء أبنائها. أما حان الوقت، ولات ندم، بعد قرن مضى وعقود انصرمت، ولمّا تزل المفاتيح الفلسطينية في أيدي الأطفال، والحزن العربي يلفُّ كل الأمة، ويحيط بكل الوطن. من الماء إلى الماء، من الفاء إلى النون، من كل الرموز والإشارات. من كل الصمت والغدر والخداع، والليل الطويل. أما من صبح ينجلي بعده؟!
وخلف أو بعد هاتين المأساتين، يستمر بعض حكّام العرب في تكريس آثارهما. في التجميع المغلوط، وفي الاستهداف المتعمد، وفي التخادم المفرط، وفي تبذير ثروات الشعوب، وتدمير خياراتها، في التحرر الوطني والاجتماعي والاقتصادي. فيعمل وهو يحتفل في ذكرى تأسيس مشروع «مجلس!!»، معروفة أسبابه، ومحفزاته، وأهدافه في منتصف أيّار، أيضاً، 1981، ما يعمّق في المأساة العربية وتداعياتها الكارثية.


افتقاد المناضلين
في زمن ملتبس يؤشر لخسارات كبيرة

من نكبة كبرى إلى نكسة أكبر. من ضياع الأوطان إلى استشهاد رموز تاريخية، تركت آثارها ساطعة في صفحات التاريخ. في منتصف أيّار 1987، سقط مفكر عربي ومناضل عضوي، علم مرفوع وسط الوطن، إرادة علمية لتبصير أمة، الدكتور حسن عبد الله حمدان «مهدي عامل» (1936-1987) اغتيالاً وغدراً وإجراماً. توقّف قلب الانسان الذي دان بكل ما يعلم لغة الاستبداد، أو لغة الصمت. وأراد للثقافة العربية أن تعبّر عن لغة الناس، والتمرّد على الواقع. ورفضه والوقوف صامداً مع التغيير، والتجديد، وتطوير أدوات النضال ضد العدو الطبقي، والسياسي، وأساليب الكفاح ضد الطائفية والخنوع، من أجل الحب والحياة والمستقبل. هذا الفيلسوف الشاعر، الكاتب والمفكر، الذي نظّر بوعي وتحليل علمي لتطورات الواقع العربي، وتطوير أدوات قراءته وتغييره، افتقدناه في مثل هذه الأيام. كتبه شهادة له، وسجل مضيء لحياته، وخسارة كبيرة غيابه المبكر.
افتقاد المناضلين في زمن ملتبس يؤشر لخسارات كبيرة لا تعوض بسهولة، لكنها تأسّي في مسيرة الأجيال والاستمرار. هذا العام، يحمل منتصف أيّار أخبار فقد رموزٍ أخرى. وفاة شخصيات لما تزل بصماتها الفكرية شاخصة، وشهاداتها للعروبة، والتقدم واليسار، والإنسانية واضحة. وكأن الزمن اللعين يريد أن يواصل النكبة، ويزيد في مشروع سايكس _ بيكو، وأحفادهما تعميقاً وتفصيلاً.
وفاة كلوفيس مقصود (1926- 2016)، ومحمد المجذوب (1932- 2016)، الأكاديميين والمفكرين والمناضلين من لبنان، اللذين وقفا بقوة أمام المأساة، وناضلا ضد استمرارها في العمق العربي، المحلي، والإقليمي، والدولي. كل من موقعه أو عمله. وظلّا بإرادتهما صوتاً منبهاً للأمة، ومدافعا عنها أمام النوائب والشدائد.
وقفا بالكلمة والعمل لتقديم صورة المناضل العضوي، والمكافح الصامد، والموحد للآمال وللأحلام المشروعة، لأجيال خاضت صراعاتها معهما، ومع كل المناضلين الحقيقيين في هذه الازمنة القاسية. حياة كلوفيس مقصود السياسية في كل مكان عاش فيه قدمت شخصية عروبية يسارية متقدمة، في الدفاع عن معتقداته وإيمانه في قضايا أمته وهموم جيله. وكذلك كان محمد المجذوب في محطات سيرته النضالية والوطنية والقومية. حياتهما حافلة بما يخلدهما في ذاكرة من عايشهما، أو اطلع على بعض ما تركاه.
رغم كل الأحزان، ومهما كانت الكارثة وفواجعها، تظل مشاعل التنوير في الأمة منيرة، مضيئة، مشتعلة. وعلى الأقل في تواصل الأفضل في ميادين التراث والعلم والعمل والأمل لأجيال تنتظر الكثير منها، وتسعى من أجلها وتتوق إليها.
* كاتب عراقي

0 تعليق

التعليقات