يطالب القادة العرب الخليجيون، وفي مقدمتهم آل سعود، الرئيس الأميركي باراك أوباما تفهّم مخاوفهم من إيران «الفارسية الشيعية». ويعتقد زعيم البيت الأبيض أنه قدّم الكثير من التطمينات لشركاء بلاده الأبرز في المنطقة العربية، فقد جدّد مراراً التزام واشنطن بالدفاع عن دول مجلس التعاون ضد أيّ اعتداء خارجي، وامدادهم بالسلاح والتقنية، ومنحهم الغطاء السياسي لحروبهم المباشرة وغير المباشرة الخارجية، وتقديم الدعم العملي (دع عنك التصريحات) لإجراءاتهم الداخلية الحادة ضد شعوبهم.ويفترض أن يكون مثل هذا «الوفاء» (وهي كلمة ليس لها مكان في عالم السياسة اليوم) كافياً ليبث الطمأنينة في قلوب الأمراء والشيوخ على الضفة الغربية من الخليج المشتاق للسلام، بيد أن ذلك لم يحصل، وخرج أوباما من آخر قمة جمعته والزعماء الخليجيين، في الرياض، في ابريل/ نيسان الماضي، بخلاف وصفه بـ«التكتيكي» حول العلاقات مع إيران.
بعض
القراءات التي يتبنّاها بعض محلّلي
«محور الممانعة» وقعت في المبالغة



الخوف من القوة الناعمة الإيرانية

يرى الخليجيون أنّ أوباما تخلى عنهم! لكنه يتساءل ماذا عساه أن يفعل أكثر من تلك التعهدات التي قطعها، وترسانة السلاح التي باعها، والدعم السياسي الذي قدمه في كل المحافل الدولية والإقليمية للقمع الخليجي؟ والمداد المخابراتي الذي تقدمه واشنطن لدعم أمن الأنظمة الخليجية، وحروبها في الجوار؟
الشكوى الخليجية تتلخص في أنّ أوباما لا يتفهم القلق السعودي من إيران، ليس في شأن قيام إيران بحرب ضد الخليج، يعرف الخليجيون أنّ هذا أمر غير مدرج على جدول الأعمال الإيراني. الهواجس الخليجية تتصل أساساً بتمدد إيران الناعم، في غير مكان، وتقول الرياض إن إيران تمكنت من التمدد وهي في حالة حصار خانق، فكيف بها إذا خففت العزلة الدولية أو ألغيت؟
أوباما يدرك ذلك تماماً، لكن رأيه أنّ الحل ليس بيده في ما يخص هذه المعضلة، وإنما في الأداء الخليجي، غير المعتمد على الذات، وغير المستند إلى قوة داخلية، اقتصادياً، وغذائياً، ومعرفياً، وعسكرياً، فيما شرعية الأنظمة الخليجية تعاني أكثر من خدش لجهة الشرعية الشعبية، في وقت تعم المنطقة حالة اضطراب غير مسبوق، تستوجب معالجات داخلية، وليس هروباً نحو حروب في الجوار، إن شتّت انتباه الداخل مؤقتاً، فإنها، على المدى المتوسط والطويل، تنهش في مقدرات الدول، وتعمق من مآزقها، وتزيد من تحدياتها، على مختلف الصعد.
وربما بسبب ذلك، أي بالنظر إلى غياب الرؤية الخليجية الخاصة بها، فشلت معظم هذه الدول في قراءة التحولات الأميركية، رغم كونها ملعنة، خصوصاً لجهة التوجه شرقاً، وما تستوجبه، بالضرورة، من فك الاشتباك مع إيران، وتقليل الاعتماد على النفط السعودي.
لم يذهب أوباما في علاقته مع إيران إلى حدّ تحولها شريكاً، ما حدث هو الاتفاق على «وقف إطلاق النار»، وتوقيع «معاهدة منع اعتداء متبادل»، إن صح القول، واتخاذ إجراءات إيجابية (توقيع الاتفاق النووي) من المرجح أن تقود إلى «سلام بارد»، على أن يؤجل «التطبيع» إلى مرحلة أخرى.
كان الخليجيون يرتقبون أن يُطلعوا على بنود الاتفاق مسبقاً بين طهران والغرب، بل أن يكون لهم مقعد على طاولة التفاوض الدولية ـ الإيرانية، ومجدداً هذا تقدير خاطئ للذات والمقدرات.
ما يعتبره الخليجيون إدارة للظهر، هو في الواقع خطوة كانت ترمي لها الولايات المتحدة منذ سنوات، حين خاضت مفاوضات إبّان فترة حكم الجمهوري بوش الابن، لم تكلل بالنجاح، كان يفترض أن تضع في أذهان الخليجيين، أن واشنطن لن تستجيب إلى الطلب السعودي بـ«قطع رأس الأفعى»، كما دعا الملك عبدالله، وإن خيارات الحرب الأميركية مع إيران قد تقلصت إلى أدنى درجة بعد الاجهاد الذي أصيبت به المؤسسة العسكرية في أعقاب حربي أفغانستان (2002) والعراق (2003)، لكن قصر النظر الخليجي، واعتياد الارتهان للغير، قد أوقعهم في استبعاد سيناريوهات توقعها الكثير من المحللين، الغرب والعرب.
بالمناسبة، فقد سبق للولايات المتحدة وإيران أن توصلتا إلى تفاهم غير مكتوب بشأن إدارة التباينات في أفغانستان والعراق، وصحيح أن تلك العلاقات مرت بفترة من المناوشات العسكرية، بيد أنّ صيغة ما قد تمت، يفترض أن تعطي الخليجيين إشارات جلية إلى أن احتمالات التفاهم الإيراني الأميركي، مطروحة، دوماً، على الطاولة.


بروباغندا محور الممانعة

في الواقع، قد يصح القول هنا أيضاً، أنّ بعض القراءات التي يتبناها بعض محللي «محور الممانعة»، قد وقعت في المبالغة لجهة التهويل من شدة اهتزاز العلاقات الأميركية السعودية. وقد يكون ذلك مفهوماً أحياناً، خصوصاً في ظل استقطاب حاد يطغى على الإعلام، يحوله من مراقب إلى لسان حال، بيد أني أظن أنّ المضي في تثبيت وقائع ما هي إلا تكهنات، تحيل هكذا إعلام إلى بروباغندا.
أظن أن الحذر هو الصيغة المثلى للتعامل مع وضع انتقالي كهذا، ما زالت الولايات المتحدة تصرح بأن لديها «مخاوف خطيرة بشأن تصرفات إيران»، بيد أن الأكثر تعبيراً ليس التصريحات، التي يفترض أن تكون آخر عنصر يتم بناء السياسات عليها، بل في السياسات الأميركية العملية، التي ما زالت تقود حرباً ضد محور طهران في سوريا والعراق، في محاولة لاستنزاف الجمهورية الإسلامية، وإعادة الأموال التي استردتها الأخيرة بعد فك التجميد عنها في واشنطن، فضلاً عن المضي في نهج أصيل في تفكيك وتدمير المنطقة، عبر تهيئة الأرضية لتنامي الحروب وسيادة الاستبداد.
وتستمر واشنطن في دعم العدوان السعودي على اليمن، في ظل بروباغندا سعودية/ أميركية، أن اليمن بات في الحضن الإيراني، ولم تقدم أي أدلة ذات مصداقية على تقديم طهران دعماً تسليحياً إلى الحوثيين، الذين يقودون حكومة الأمر الواقع في صنعاء.
الاستسلام للرواية السعودية بأن واشنطن أدارت الظهر للرياض، يمكّن الأخيرة وحلفاءها من تبرير التصعيد الخليجي، واستخدام القوة بدل الدبلوماسية في صنعاء، ورفض التسويات في سوريا، والمضي في مشروع تخريبي في العراق، فيما يتم كلياً تناسي الوجود العسكري السعودي في البحرين، الذي كان أبرز دلالات الثورة المضادة لمواجهة ما عرف بثورات الربيع العربي.
ما زالت علاقات الرياض وواشنطن قوية، وما زالت الأخيرة تقدم كل ألوان الدعم العسكري والسياسي والمخابراتي، لاستمرار الحكم السعودي داخلياً، وتنامي سياسته العدوانية خارجياً.
أميركا تظل بالفعل «الشيطان الأكبر» حتى إشعار آخر، أما الحوار مع الشيطان فهي سنّة إلهية.

رؤية 2030

قبل نحو سنة من الآن، لاحظ أوباما، في تصريحات نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز»، أن «أكبر خطر يتهددهم (دول الخليج العربية) ليس التعرض لهجوم محتمل من إيران، بل السخط داخل بلادهم، بما في ذلك سخط الشبان الغاضبين والعاطلين والإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمهم».
منذ ذلك الوقت، يقول الطاقم الجديد في السعودية أنه سيضع الخطط للنهوض باقتصاد المملكة، وتقليل اعتمادها على النفط، بل إن السعودية قادرة على العيش من دون نفط في 2020، وهي تصريحات مرسلة، ظهر بها ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لا تستند إلى وقائع، وتكذبها ما يسمى مشاريع تنويع الدخل التي خاضتها البيروقراطية السعودية طوال عقود، وفشلت.
المبالغ التي في يد الرياض ضخمة، وتعلن الرؤية السعودية 2030 أنه سيتم تأسيس «صندوق سيادي بأصول تقدر قيمتها ٢ إلى ٢.٥ تريليون دولار ليصبح بذلك أضخم الصناديق السيادية عالمياً».
لكن من قال إن السعودية تعوزها السيولة، وينقصها المال، والسؤال الأهم، ما العائد على المواطنين السعوديين، إذ ماذا سيفرق إن تسلط على هذه المقدرات الاستثنائية أمير واحد، أو عدة أمراء، كما كان عليه الحال قبل أن يتبوأ أصغر أنجال الملك السعودي مركزاً رئيسياً في القرار.
ومثلاً، فإن الاقتصاد السعودي يولد مئات الآلاف من الوظائف، بيد أن استفادة المواطنين منها محدودة، لأسباب كثيرة، تتعلق أساساً بالريع القادم من الأجانب، الذي تستفيد منه النخبة الحاكمة والقريبين منها (في عام 2012 ولد اقتصاد السعودية نحو 200 ألف وظيفة، نحو 92 ألف وظيفة منها ذهبت لغير السعوديين).
وحديث بن سلمان العالي النبرة، المنتقد للأوضاع في السعودية، بصورة غير معتادة، وربما على نحو لم يفعله بعض المعارضين، مثل حديثه عن إدمان النفط، وانتقاده لأداء وزير الكهرباء وهيئة مكافحة الفساد، واعتباره عدم وجود متحف إسلامي في المملكة غير منطقي، فإن كل ذلك يستهدف تحقيق أمور ثلاثة:
الأول، تبرير زيادة الأعباء على المواطنين، مثل «رفع أسعار الوقود ومشتقات نفطية أخرى والمياه والكهرباء وغيرها، بنسب تصل إلى 67 في المئة»، في ديسمبر الماضي، بالقول بأن ذلك يرمي إلى تحقيق أهداف أسمى.
الثاني: تبرير منح الأمير الشباب صلاحيات مطلقة لإدارة وزارة الدفاع، وشؤون الحرب، والشؤون المالية، وقطاع الاقتصاد، وشؤون الخدمات، والتحكم بالنسبة الأعظم من ميزانية المملكة (في 2016، من المتوقع أن تبلغ الإيرادات 513 مليار ريال، والمصروفات 840 مليار ريال، أي نحو 224 مليار دولار)، كون بن سلمان، كما يروج الإعلام السعودي، «صاحب الرؤية».
الثالث، وهو الأهم، تتوجيه ملكاً مقبلاً، ما دام صريحاً، شفافاً، معطاء، مختلفاً عن الأمراء الآخرين، ويحب الشباب، حريصاً على النساء، لا يجامل الأثرياء، وقرّة عينه الصلاة!
على ان الرؤية تجاهلت كلياً أي إصلاح سياسي، كان أوباما عناها أكثر في نقده للراهن الخليجي، وستستمر السعودية بذلك بتصدير الشباب، اليائس أو المعبأ بالتطرف الوهابي، انتحاريين للجوار والعالم.
لا يراد للرؤية النهوض بشعب المملكة، وإذا ما كانت زيادة في الإيرادات والاستثمار ستتحقق، فإن ذلك لا يعني تلقائياً حالاً أفضل للناس، بل أمراء أكثر غنى وسطوة.
ليس تدشين الرؤية 2030 بعيداً عن الصراع مع إيران، وإن كانت الأخيرة ستفتح أبوابها مقننة للاستثمار الخارجي، فإن السعودية ستفتح الأبواب على مصاريعها لهذا الاستثمار، وربما تضع شروطاً من تحت الطاولة بأن يضع المستثمرون بيضهم في سلة الرياض، دون طهران!
أوباما يحاول قيادة الرياض للاعتراف بالواقع الجديد، وقد نجح في ذلك إلى حد ما، خاضوا حرباً مباشرة في اليمن، طبعاً برعاية أميركية، وأعلنوا رؤية أعدتها عقول غربية، لكن السعوديين الذي اعتادوا أن يحارب ويفكر الأميركيون عنهم، سيظلون ينشدون هكذا نموذج، لا تراه أميركا خطأ بالضرورة، إلا إذا أرادت الرياض أن تكون أكثر من تابع للقرار الأميركي، كما كان الحال دائماً، لكن التابع هذه المرة عليه أيضاً أن يفكر ويختار، ويبذل دماً، وليس فقط أموالاً واسلاماً أعوج، وستلتزم واشنطن بالقيادة من الخلف لمساعدة الرياض في اكمال اجهاض أي حلم بالديمقراطية والوحدة والاستقلال في المنطقة.
الفراق الأميركي السعودي حلم بعض الممانعين البعيد، لن تجد واشنطن أفضل من السعودية رجعية وعنفاً وقدرات مالية، لمنع أي تقدم عربي إسلامي، نُظر له دوماً على أنه الخطر على إسرائيل، والمنافس المحتمل لـ«العالم الحر».
* إعلامي وكاتب من البحرين