«جبهة النصرة» تنظيم إرهابي. لا غبار على هويته الفكرية والسياسية وممارساته الميدانية. فهو فرع لتنظيم «القاعدة» الذي لا ينفي الانتماء إليه بل يفخر بكونه فرعاً له في الشام. وتنظيم «القاعدة» تنظيم إرهابي في عرف كل العقلاء السياسيين حتى داخل منظومة ما يسمى الاسلام السياسي. وبطبيعة الحال، فإن ما يسري، من أوصاف وتعريف، على الأصل، يسري، ويصح قوله، الى حد كبير، في حق الفرع. ولا يغير من هذه الحقيقة كون أفراد الفرع ينتمون الى هذا البلد او ذاك، لأن الانتماء الجغرافي ليس علة نعت التنظيم بالارهاب، بل هي العقيدة التي يؤمن بها، ورؤيته الى ما يخالفه من أفكار وعقائد يتبناها جمهور واسع من الناس، كما تدافع عنها تيارات وقوى سياسية تنهل من مناهل فكرية وإيديولوجية متباينة.
إذاً، فالعلة تكمن في هذا النمط من الفكر التكفيري الذي يقصي عقائدياً، ويحاول ان يحرم من لا يشاطرونه العقيدة والمذهب ونمط التفكير، من الحق في الحياة او إخضاعه الى واقع الاسترقاق الواضح والصريح، كما تكشّف للعالم أجمع من كيفية التعاطي مع كل من تمت السيطرة على مدنهم وقراهم من قبل تنظيمي «داعش» و»النصرة» - ومن ينسج على منوالهما الفكري والايديولوجي من تنظيمات مسلحة تحت مسميات عديدة في سورية. والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، كما لا يخفى على اي احد من علماء الأصول في الماضي والحاضر على حد سواء.
يدخل التقارب التركي ــ
السعودي بغاية تحقيق مكتسبات ميدانية وسياسية

لقد سبق لرئيس الائتلاف السوري المعارض السابق معاذ الخطيب ان رفض تصنيف الولايات المتحدة الاميركية لجبهة النصرة التي تقاتل في سورية ضمن المنظمات الإرهابية، وفق القوانين الاميركية في خطاب شهير له بمؤتمر أصدقاء سورية الذي انعقد في مدينة مراكش المغربية امام ذهول مختلف الأوساط السياسية والدبلوماسية الدولية، بما فيها تلك التي تؤيد الحرب على سورية تحت مسمى دعم الثوار الذين يرغبون في إسقاط النظام السوري وإزاحة الرئيس بشار الأسد عن قمة هرم السلطة السياسية في البلاد. ذلك ان الجميع يعلم، ولا يفترض في الخطيب ان لا يعلم، ان جبهة النصرة هي الذراع العسكرية لتنظيم القاعدة في سورية، وأنها حظيت وتحظى دائماً، بدعم أيمن الظواهري زعيم القاعدة الذي خلف اسامة بن لادن في منصبه على رأس التنظيم. ولا يعود هذا الذهول الى عدم معرفة من هي جبهة النصرة او ان الخطيب قد كشف جديداً في حديثه عنها، وإنما الى نوع من اتفاق «جنتلمان» بين مختلف القوى المناهضة للدولة الوطنية السورية وتنظيم القاعدة الإرهابي بعدم الكشف عن أي علاقة من قريب او بعيد مع الجبهة او التعبير عن اي تعاطف معها، لأن ذلك سيكشف حقيقة زيف شعارات الحرية والديمقراطية التي ترفعها القوى المعادية للدولة. لقد كان حال لسانها يقول: ما يهم ليس هو إعلان تأييد ما تقوم به جبهة النصرة في سورية ما دامت تنفذ الدور المنوط بها، وتساهم في تحقيق الغاية من ادخالها الى سورية وهو تسريع تدمير كل البنيات التحتية والمؤسسات الوطنية السورية، ونشر الرعب والارهاب في مختلف أوساط الشعب السوري، بهدف دفع أوسع الفئات الممكنة الى الالتحاق بصفوف الجماعات الإرهابية المسلحة لمقاتلة للنظام او الالتحاق بصفوف المهجرين في دول الجوار لتشكل وسطاً ملائماً لبثّ الدعاية التكفيرية وتجنيد المقاتلين للالتحاق بصفوف الإرهابيين في مختلف ميادين وجبهات القتال، او في اقل تقدير ان تنفض من حول الدولة فارضة عليها عزلة حقيقية، ولا تعمل على دعمها وحمايتها ما يطيل أمد تحملها وصمودها، وكما بينت التجربة الملموسة للسنوات الماضية من الحرب على سورية.
فهل يحمل تصريح رئيس الائتلاف الحالي خالد خوجة جديداً بخصوص الأزمة السورية وتحالفات القوى المنخرطة فيها، عندما اعلن ان ما يحول دون التحالف الوثيق مع جبهة النصرة هو كونها قد اعلنت من قبل ارتباطها بتنظيم القاعدة وانه يكفي القول بأنها مستقلة عنه حتى تكون مقبولة في صفوف ما يعتبره الائتلاف قوى الثورة السورية؟
الحقيقة ان لا جديد في الأفق، وانما تم التأكيد، مرة أخرى، طبيعة العلاقة بين الائتلاف السوري المعارض الذي صنع صنعاً في الدوحة وتبنته انقرة، وبين الجماعات الإرهابية التي تشرف عليها تركيا اردوغان. وانه لأمر ذو دلالة كبيرة ان يتزامن هذا التصريح مع ما يتم نشره حول التقارب بل والتنسيق التركي مع دول الخليج في الموضوع السوري، وكيف ان تلك الدول تستعد لتعلن انحيازها المطلق الى جانب جبهة النصرة التي يبدو انها تراهن عليها لتحقق لها بعض الانتصارات التي ترغب فيها في سورية بعد ان فشل جل المجاميع الإرهابية التي جندتها لهذه الغاية خلال السنوات الأربع الماضية.
وهذا يعني ان القوى المعادية للدولة الوطنية السورية قد دخلت عملية مراجعة جذرية لحساباتها السياسية والميدانية بعد ان تبين لها، بالملموس، ان رهاناتها السابقة، على بعض القوى والجماعات المسلحة في سورية، قد باءت بالفشل الذريع، بفضل الصمود الاستثنائي للشعب السوري الذي قاوم كل الإغراءات التي قدمت له، في مختلف المجالات، لخيانة وطنه، وقرر تحمل كل تبعات هذا الموقف على مستوى أمنه الشخصي والجماعي لأنه بذلك فند كل الدعاوى المغرضة بأنه يمكن شراء ذمم الوطنيين السوريين، بفائض إيرادات آبار النفط والغاز في منطقة الخليج العربي أساساً.
ويبدو انه في سياق هذه المراجعات الجذرية يدخل التقارب التركي ـ السعودي، والتنسيق بين انقرة والرياض والدوحة في إدارة الحرب على سورية، بغاية تحقيق بعض المكتسبات الميدانية والسياسية في أفق مفاوضات دولية بمشاركة إقليمية محتملة حول الازمة السورية لتحديد ما تسميه بعض الأطراف الاقليمية والدولية طبيعة المرحلة المقبلة في سورية، متعمدة الإشارة الى انها مرحلة ما بعد نظام الرئيس الاسد، على حد قولها، في تجاهل تام، ومتعمد، بالتأكيد، لدروس الحرب الدائرة في سورية تحت هذا العنوان، بالذات، منذ اكثر من اربع سنوات. وفي مقدمة هذه الدروس ان التوصيف الذي تطلقه تلك القوى على نظام الحكم في سورية سطحي وتبسيطي الى ابعد الحدود، وهذا ما أدى الى سقوط كل الرهانات على انهياره وسقوطه خلال الأشهر الاولى من اندلاع الأحداث كما وعدت الجماعات المسلحة وداعموها الاقليميون والدوليون الذين لم يدخروا فعلاً يعتقدون انه سيسرع من نهاية السلطة السياسية في سورية، الا واقترفوه. وها هم الآن يلجأون الى احياء الوعود إياها ونشرها على أوسع نطاق، مستندين في ذلك الى تحقيق بعض الانجازات العسكرية في عدد من المناطق حاولوا تصويرها بأنها قاصمة الظهر بالنسبة للنظام السياسي السوري.
صحيح ان قوى التطرف والارهاب قد حققت الكثير من الانجازات في مجال تدمير البنى التحتية للبلاد، ان جاز لنا اعتبار هذا إنجازاً في الواقع، وان دمشق قد فقدت السيطرة موقتاً على عدد من المناطق التي احتلها تنظيم «داعش» او جبهة النصرة وغيرهما من الجماعات المقاتلة نيابة عن قوى إقليمية لم تتردد في الكشف عن وجهها تحت شعارات مختلفة هدفها تدمير الدولة السورية وفرض اجنداتها السياسية والاستراتيجية على قياداتها، بما يخدم مشروع تفتيت المنطقة وتمكين اسرائيل من مزيد من عناصر القوة، غير ان كل ذلك لا يحجب، بالمطلق، كون الجيش السوري ومختلف القوى التي تدعمه داخلياً وإقليمياً لا يزال ممسكاً بزمام المبادرة العسكرية بالمعنى الاستراتيجي.
لكن يبدو ان القوى المعادية جاهزة ومستعدة دائماً لقلب الحقائق وتصوير ما تحققه من اختراقات أمنية او عسكرية، هنا وهناك، كما لو كانت إنجازات استراتيجية منقطعة النظير، في وقت تعتبر فيه ان ما يحققه الجيش السوري من إنجازات هو مجرد اعمال من اجل رفع معنويات الجيش والمؤيدين للسلطة، دون ان تتنبه تلك القوى الى انها تقع في تناقضات سخيفة بسلوكها هذا. ولعل كل ما نسجته من أساطير حول الموقع الاستراتيجي لجسر الشغور عندما سيطر عليها، تنظيم جبهة النصرة الإرهابي لم يلبث ان تحول عندما عاينت تلك القوى جدية تعامل الدولة مع هذا الموقع وإصرارها على تحريره من الجماعات المسلحة الى مجرد محاولة من النظام رفع معنويات جنوده من خلال العمل على استعادة جسر الشغور.
* كاتب مغربي