لا شك أن غياب الملك السعودي سلمان (وآخرين) عن القمة الاميركية الخليجية هو تعبير عن استياء قيادة المملكة من السياسات الاميركية التي اعتمدتها ادارة الرئيس باراك أوباما حتى الآن، والتي يواظب عليها سيد البيت الابيض رغم اعتراض وامتعاض وتهديدات (!) قيادة المملكة. لم تفعل الاجتماعات الوزارية والأمنية التحضيرية للقمة (التي هي بمثابة استدعاء يليق فقط بعلاقة المتبوع بالتابع والقوي بالضعيف) سوى تأكيد الهواجس السعودية بشكل خاص. الاعلام الخليجي يعبّر، مباشرة، عن خيبة ويأس من امكانية تغيير سياسة اوباما. هو لا يرى بارقة امل قبل انتهاء ولايته في نهاية العام المقبل.

تبرز، في هذا الصدد، مفارقة غير قابلة للتفسير والعلاج (!) حتى الآن: من جهة، التهليل لجنوح القيادة السعودية الجديدة نحو «الحزم» واعتبار ذلك مدخلاً لتوازنات ومرحلة جديدة تكون فيها السعودية صاحبة قرار لا رهينة انتظار. من جهة ثانية، التوجس من حجم الصعوبات والالتزامات (وصولاً الى الفشل) اذا ما استمر الانكفاء الاميركي الذي يشكو منه قادة المملكة، واستمرت المملكة شبه وحيدة في انعطافتها «الحازمة» الراهنة.
ضاعف من خيبة قادة المملكة وصقور إعلامها أيضاً، امتناع دول عربية واقليمية عن الوفاء بتعهداتها (رغم سخاء المساعدات) في شأن ارسال قوات تتولى حل معضلة المشاركة البرية في غزو اليمن، وهو أمر لا تقوى عليه قيادة المملكة ولا يبدو ان سواها قادر على ذلك أو راغب فيه حتى!
لم تنفع المبالغة في ابراز أهمية وفعالية «الحزم» السعودي المستجد، ولا محاولة وضعه في سياق مشروع عربي شامل لانشاء قوة تدخل مشتركة للتعامل مع التحديات التي تواجه عدداً من دول المنطقة: سواء من قوى التطرف والإرهاب والتكفير او من جهات اقليمية ينظر إليها بأنها ذات مشاريع تمدد وتدخل... (إسرائيل ليست معنية طبعاً بهذا الأمر، ما يشكل هدية إضافية لها في ذكرى الاغتصاب. أما قضية وحقوق الشعب الفلسطيني ومعاناته فخارج جدول الاعمال الجديد كالعادة). لم ينفع، بما يكفي أيضاً، اللجوء إلى الأحلاف والتعبئة المذهبيين لأن هذه اللعبة ستستنزف جميع المنخرطين فيها من دون استثناء.
طالبت قيادة المملكة إدارة
اوباما بعقد معاهدة دفاعية مقابل الاتفاق النووي


لم تنفع المبالغة في إبراز
أهمية «الحزم» السعودي المستجد وفعاليته

قال الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون يوماً لأحد محدثيه حين لاحظ جهله بالمستجدات: «انها العولمة يا غبي». ينطبق ذلك، الآن، على العلاقة الاميركية ـ السعودية بشكل كبير. لم تدرك قيادة المملكة ان العالم يتغير بشكل متسارع، وحتى مدهش: بعد المغامرات و«الاخفاقات» العسكرية الاميركية في الشرق الاوسط خصوصاً. وبعد المنافسة المتنامية الخطورة التي تواجهها واشنطن: عسكرياً من قبل روسيا، واقتصادياً من قبل الصين. وبعد اكتشاف واستثمار بدائل من نفط الخليج والسعودية خصوصاً. وبعد بروز تكتلات دولية وقارية ذات قدرة على التأثير السياسي والاقتصادي على امتداد اسواق العالم ومناطقه. وبعد بروز دور «الارهاب» الذي بات يشكّل خطراً مخيفاً، كما يكرر الرئيس الاميركي (هدّد واشنطن نفسها سابقاً)، يهدد كل العالم اليوم...
ينبغي التوقف عند النقطة الاخيرة خصوصاً. فالولايات المتحدة التي اقامت احلافاً ضد الارهاب التكفيري المستشري اليوم، تنطلق من أن نظام المملكة السعودية هو احد اكبر مصادر ذلك النوع من الارهاب. تبلور ذلك، خصوصاً، بعد تفجيرات ايلول لعام 2001 في مراكز ورموز قوة الولايات المتحدة المالية والعسكرية والامنية، واستناداً إلى عشرات التقارير الرسمية الاميركية التي اشارت الى مسؤولية النظام السياسي والاجتماعي والفقهي السعودي نفسه عن توليد وتشجيع واستخدام الارهاب وتنظيماته (ولو افلت الأمر من المملكة لاحقاً وارتد على قيادتها نفسها وعلى حليفتها واشنطن التي استسهلت، هي أيضاً، تشجيع وتجنيد الإرهابيين، بمن فيهم بن لادن نفسه).
بكلام آخر: المملكة السعودية تفقد مكانتها ودورها تباعاً، فيما تتمكن قوى أخرى من فرض حضورها ودورها. ينطبق ذلك، على سبيل المثال، على الجمهورية الايرانية التي يشاء نكد الدنيا ان تكون هي المنافس، وربما البديل من المملكة في هذا العالم المتغير وناكر الجميل؟!
من حيث المبدأ، تستميت قيادة المملكة لتبقي القديم على قدمه، تماماً كما هو الامر بالنسبة لنظام الحكم فيها والذي يجب ان يبقى ملكياً وراثياً محصوراً بذرية عبد العزيز حتى أبد الآبدين (التوريث والتأبيد ليسا حكراً على الحكم السعودي)! لذلك يسود شعور بالفجيعة في اوساط الاسرة السعودية المالكة، بسبب تغير اسلوب التدخل الاميركي في شؤون المنطقة والعالم: من شن الحروب الاستباقية وسياسة البوارج والقواعد العسكرية... الى سياسة ادارة الازمات وتغذية التناقضات، وفق معادلة يتقدم فيها على سواه مبدأ «البقاء للأصلح»، أو بالأحرى، للأقدر على خدمة مصالح واشنطن، أو بالمقابل، للأقوى على مواجهة المتغيرات والازمات، وعلى الحضور الفاعل في المعادلات والمستجدات الحالية والمستقبلية.
طالبت قيادة المملكة ادارة الرئيس اوباما بعقد معاهدة دفاعية مقابل مشروع الاتفاق مع ايران حول ملفها النووي (وهو يتعدى النووي الى مجمل حضور ايران في المنطقة وبما يستبطن، أيضاً، احتواء هذا الحضور عبر محاولة إحداث تغيير تدريجي في السلطة الايرانية). لم توافق الادارة الاميركية على المطلب السعودي (كما لم توافق بالامس على توجيه او اجازة ضربة اسرائيلية للمواقع النووية الايرانية). ذلك يعني أن المضي، عبر «عاصفة الحزم»، بالمواجهة شبه المنفردة سيكبد المملكة السعودية وقادتها المزيد من الخسائر. من أجل ذلك وسواه لا بد من مقاربة جديدة تنطلق من المعطيات الجديدة نفسها. على سبيل المثال: لماذا تكون واشنطن قادرة على الحوار مع القيادة الايرانية ولا تفعل ذلك القيادة السعودية من اجل التوصل الى تفاهمات تكون بديلة من التشنج الحالي، وحتى عن «الحماية» الاميركية شديدة التكلفة على المستويات كافة؟! لماذا، اذن، لا يبحث قادة المملكة عن صيغ جديدة للعلاقات، اتفاقاً وخلافاً، عبر منظومات محلية سياسية واقتصادية وامنية، تنطلق، اساساً، من حاجات المنطقة ومصالحها، من دون ان يكون فيها للقوى الخارجية دور المقرر أو دور «موزع الجبنه» الذي يأكل في كل الاتجاهات وعلى حساب الجميع؟!
في المقابل، لماذا لا تختبر دولة مثل ايران، وهي ترفع شعارات تحريرية ضد «الشيطان» الاكبر والاصغر، وسائل اخرى ومقاربات اخرى: بشأن التعبئة (وخصوصا منها ذات المنطلق او الشكل المذهبي)، وبشأن تبديد مخاوف الجيران (بحيث لا يهرعون دائماً الى الحماية الاميركية). مثل ذلك لا يمكن أن يحصل إلا من خلال سياسات وعلاقات ومواقف اكثر واقعية وأقل اثارة للهواجس والمخاوف. اليمن مثل حي على ما نقول. في هذا البلد الفقير حصلت انتفاضة مميزة ضد الديكتاتورية والفساد. الآن ينقلب كل شيء، تقريباً، نحو الأسوأ وصولاً إلى غزو تدميري ترافقه حرب أهلية لن ترحم أحداً من أبنائه أياً كان المنتصر.
ليس المشهد اليمني، بكل ما يحمله من صنوف المخاطر والتهديدات الهائلة، سوى جزء من مسار كوارثي متفاقم ومستفحل، يتهدد كل مصيرنا ومصالحنا الأساسية. هو بات أقرب إلى التدمير الذاتي المقترن بالعنف المنفلت والضربات «الممنوعة» والخسائر الاسطورية: من المحيط الى الخليج... متى نعتبر؟!
* كاتب وسياسي لبناني