«تقوم عصور النهضة على أساس علاقة معينة بين ماضِ مبجل وحاضر منحل، وتهدف تلك العصور إلى إعادة تمثيل هذا الماضي». مارك ويليامز

من البداهة بمكان أنه في زمن الانهيار يزداد الحنين إلى الماضي البعيد، ويزداد التعلق به، ويتحول إلى ملجأ للهاربين من جحيم الحاضر. وكلّما تداعى الحاضر وانسدت آفاق المستقبل يزداد التعلق بالماضي، حتى أنه في بعض اللحظات يهيمن على آليات تفكير شرائح اجتماعية واسعة، ويتحول التمسك به وتمثّل قيمه إلى مخرج من حاضر يتداعى وينهار.

إن علاقة الماضي بالمستقبل وأشكال بنائه، ما زالت محلّ جدال واسع. فاستلهام الماضي والاستفادة من التاريخ يظهران في سعي الأمم الطامحة إلى التغيير، مستمدة بعضاً من قوتها من إشراقات ماضيها البعيد. لكن العودة إلى التراث وإعادة إنتاجه يجب أن يندرج في سياق بحث أسباب تصدع وانهيار المجتمعات اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وعلاقة تلك المستويات بالتحولات الطارئة على المنظومات القيمية والثقافية والمعرفية. ولضمان نتائج أكثر موضوعية يجب أن يكون بحث تلك العوامل في سياق تحديد ارتباطها وعلاقتها بالميول العالمية والعولمة.
العودة إلى التراث
يجب أن يندرج في سياق بحث أسباب تصدع المجتمعات وانهيارها
والفرق بين المستويين كبير، فالأول يحيلنا على الانفتاح العالمي القائم على علاقات متبادلة تقوم على الاستفادة من التطور الحضاري والعلمي والتقني لجَسر الهوة المعرفية وتدعيم العلاقات الإنسانية والحضارية بين المجتمعات. أما الثاني فإنه يمثل الوجه الآخر لهيمنة وطغيان الدول الكبرى والمؤسسات العابرة للحدود والجنسيات. وهذا لا يعني التقوقع على ذواتنا، وإغفال أهمية الاستفادة من التطور العلمي والتقاني الذي وصلت إليه تلك الدول. لكن ذلك بطبيعة الحال لم يعد وارداً بحكم الانفتاح الذي تفرضه ثورة المعلومات، وآليات اشتغال رأس المال المعولم المحكوم ببنيته التوسعية والاحتكارية. لذلك من الضروري أن يتم البحث عن صيغ جديدة للعلاقة بين الدول والمجتمعات، انطلاقاً من المحافظة على مبدأ السيادة والخصوصية التي يتم انتهاكه بأشكال ومستويات مختلفة. وهذا المستوى بالتحديد يجب بحثه من منظور الانفتاح العالمي الذي بات يتجاوز المفاهيم التقليدية والكلاسيكية للأطر الوطنية ومفهوم السيادة.
يعمل بعض المفكرين والمثقفين في المرحلة الراهنة على استعادة أسئلة النهضة وذلك يتعلق بجملة من العوامل والأسباب، منها:
ـ تدهور أوضاع البلدان والمجتمعات العربية ودخول بعضاً منها في طور التفكك والتحلل المحمول على تناقضات داخلية ومصالح سلطوية وأخرى خارجية.
ـ تزايد دور الخارج في القضايا العربية الداخلية، واعتماد بعض الحكومات على ذلك لضمان استمرارية سيطرتها.
ـ تفكك اجتماعي وتحلل قيمي، إضافة إلى تصدع منظومات ثقافية ومعرفية وإيديولوجية. وفي سياق ذلك فإن كثير من التحولات والتغيرات القيمية ذات الطابع الإرتكاسي/ النكوصي، تتخذ طابعاً بهيمياً. وذلك يتعلق بظروف الحرب، وأشكال ومستويات الوعي والثقافة السائدة.
وفي اللحظة التي يتم فيها استنهاض أسئلة النهضة لتحديد أسباب أزمة المجتمعات العربية وكيفية تجاوز واقعها الذي يتموضع على عتبة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الشامل والعميق يجري البحث عن أسئلة أخرى تُعبّر عن احتياجات اللحظة الراهنة. وذلك لا يعني تجاهل أهمية أسئلة النهضة التي ما زالت في كثير من مستوياتها وأشكالها صالحة لمجتمعاتنا. وتعود أسباب ذلك إلى أن المجتمعات العربية وأنظمتها الأحادية الشمولية ما زالت تعيد إنتاج أزماتها. ونتيجة عجز القوى الاجتماعية والأنظمة السياسية عن تجاوز أسباب الأزمة فإنها تحولت في سياق التقادم التاريخي إلى جزء أساسي ومُكوِّن من التركيبة البنيوية لمجتمعاتنا. وهذا لا يتعلق بوعي المواطن ومستوى ثقافته وأشكال تمظهراتها فقط لكنه يرتبط ببنية الأنظمة السياسية وأشكال علاقتها بمؤسسات الدولة والمواطن. هنا لا بد من الإشارة إلى أن تجدد الأزمة لا يعني صلاحية ذات الآليات والمنظومات المعرفية والفكرية التي كانت مطروحة لمعالجتها في الماضي. وذلك يتعلق بالتغيّرات التي طاولت بنية الدولة وتركيبتها، وبنمط علاقاتها مع الداخل والخارج، ومستوى تطورها العلمي، الحضاري، التقني، القانوني والحقوقي. وهذا يتزامن مع توظيف الانفتاح الجغرافي والفضائي من قبل الدول الأكثر تقدماً لتصدير أشكال من الثقافة والتفكير تساهم في فرض شروط هيمنتها على مجتمعاتنا. وهذا يعني أننا أمام أزمة بنيوية داخلية وأخرى تتعلق بما يُفرض علينا من الخارج.
لذلك فإن استنهاض أسئلة النهضة والبحث عن مداخل جديدة إلى نهضة مختلفة، يجب أن يتزامن مع بحث إشكاليات مختلفة ومتعددة أولها: أسباب التأخّر والتصدع والانهيار التي تعاني منها المجتمعات العربية وعلاقة ذلك بمستويات وأشكال التقدم العالمي. ويتحدد ذلك على ثلاثة مستويات: اقتصادية: «اقتصاد متخلف ـ ريعي ـ تابع». سياسية: سيطرة أنظمة أحادية شمولية. اجتماعية: تصدعات في البنية الاجتماعية، وظهور ميول إلى استنهاض المكونات الأولية نتيجة أسباب ذاتية داخلية محكومة بمسلمات الماضي، إضافة إلى تراجع دور الدولة، وأخرى تتعلق بالتدخلات الخارجية. إن جميع العوامل السابقة تنعكس على بنية وأشكال تحولات المنظومات القيمية والمعرفية والثقافية وأشكال الوعي السائد. وهذا يعني أن بحث أسئلة النهضة يجب أن يبدأ من: بحث أوضاع السلطات السياسية وبنيتها وشكل علاقتها بالداخل، ومع الخارج، وآثار ذلك على المستويات الاجتماعية ـ بحث بنية النمط الاقتصادي السائد وأشكال تجاوز مأزق التبعية والارتهان للخارج. أخيراً تحديد آثار الاقتصاد الرأسمالي في طوره العولمي المتحوِّل إلى رأسمال مالي على اقتصادياتنا لجهة البنية ـ النمط، وأشكال تجلياتها وآليات اشتغالها. أما الاكتفاء بالقول إن أزمة المجتمعات العربية هي أزمة وعي وثقافة ومثقفين، فإنه يندرج في سياق تفكير نمطي ناتج من البنية المادية السياسية والاقتصادية المهيمنة.
ثانياً: تحديد حوامل النهضة الثقافية والمعرفية والعلمية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حوامل «النهضة الراهنة» يعانون مثل باقي الفئات والشرائح الاجتماعية من تداعيات الأزمة وإشكالاتها، ومن آثار تراكم التخلف الحضاري والجمود المعرفي، ومن تصدّع المنظومات المعرفية والفكرية والإيديولوجية التي تحولت في سياق تراكم التخلف إلى أحد السمات البنيوية للمجتمعات العربية. وفي حال سلّمنا بأن حاملي الفكر النهضوي حالياً مصابون بداء اللحظة الراهنة وأمراض الماضي فهذا يعني أن دورهم في وضع المقدمات النظرية والفكرية والسياسية لإخراج المجتمع من أزمته البنيوية سيكون محدوداً. وهذا يستوجب أولاً: الاعتراف بأن المثقف العربي يعاني من تداعيات أزمة عامة ومركبة. أما الخروج منها فإنه يبدأ من إعادة أسباب الأزمة إلى جذورها المادية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ثانياً: تحديد الآليات والسبل التي تُمكننا من تجاوز آثار وتداعيات التخلف والأحادية اللذين يُشكلان المدخل إلى أمراض الاستبداد. ثالثاً: تحديد الآليات والأسس التي تساهم في بناء وعي اجتماعي مدني ـ علمي يقطع مع تجليات وملامح الماضي كافة التي تم ترسيخها على قاعدة التخلف الحضاري، وسلطة المستبد العادل.
ثالثاً: وضع الأسس اللازمة للتخلص من التبعية للغرب، ومن مشاعر الدونية أمامه. إن البنية الثقافية للرأسمالية الغربية وأشكال تطورها السياسي والاقتصادي لا يُعبِّر عن البُعد الإنساني للحضارة، ويُعيق التطور الحضاري لشعوبنا. وهذا يعني تأكيد صياغة موقف نقدي منهجي من أشكال التطور الغربي التي تم بناؤها من منظور عقلية إمبراطورية تقوم على انتهاك حرية الشعوب ونهب مقدراتها. ويجب أن يرتبط ذلك مع دراسة المتغيرات وأشكال ومستويات التطور التي يكتنفها المشهد العالمي. وهذا يدلل على صعوبة تجاوز الفجوة الحضارية والمعرفية التي تفصل بيننا وبين الدول الأكثر تطوراً، إذ لم يتم التخلي عن الآليات والأنماط النظرية الموروثة عن الماضي. إن دخول المجتمعات العربية مرحلة التصدع البنيوي ووقوفها على عتبة الانهيار يستدعي تأكيد ضرورة صياغة أسئلة تُعبِّر عن ضرورات المرحلة الراهنة في سياق انفتاحها على المستقبل. وهذا يستدعي تزامن وضع الأسس الضرورية لبناء ثقافة مدنية ـ ديمقراطية تتجاوز الحاضر المحكوم بآليات ذهنية متخلفة تعود بجذورها إلى الماضي، مع الإجابة عن الأسئلة التي تُشكّل مدخلاً لتجاوز الهوة المعرفية والحضارية والتقنية التي تفصلنا عن المجتمعات المتقدمة. وفي هذا السياق ينطوي تحديد مفهوم السيادة وتجلياته المرتبطة بالجغرافيا على أهمية بالغة في ظل العولمة التي تُخضع السيادة الوطنية وتُقلّصها إلى مستويات تمكّنها من استمرار سيطرتها. وذلك أفقد الدولة بعضاً من معانيها الجوهرية، وفرض عليها معاني جديدة. فالدول القومية في بدايات نهوضها، اشتغلت على بسط سيادتها على كامل ترابها. لكن السيادة التي تأسست على الجيش والأجهزة الأمنية كانت تتأثر بالتحولات الطارئة على بنية ومفهوم الدولة، ذلك لكونها أحد تعبيرات الدولة وجزءاً من القضايا الوطنية.
إن قوى العولمة في سياقها المتغير تمارس على الدولة القومية ضغوطاً متعددة الأبعاد والمستويات، وذلك للانتقاص من مفهومها الكلاسيكي ومن مفهوم السيادة، لجهة تحجيم استقلالية القرار الوطني وإزالة الحمايات الوطنية. ويتجلى ذلك من خلال إملاءات تفرضها المؤسسات المالية العالمية مثل «البنك الدولي» و»صندوق النقد الدولي» ومؤسسات أخرى، على السلطات لفتح الحدود والسماح بدخول وخروج الرساميل والعمالة والسلع، وذلك في سياق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة لتقليص حجم الدعم الحكومي وحجم القطاع العام ودور الدولة الاجتماعي والتنموي.
أما في ما يخص الديمقراطية المُفصّلة على مقاسات سلطات البلدان النامية، فإنها أيضاً تتعرض نتيجة تدخل قوى العولمة، والشركات الإعلامية المتخصصة التي تستند غالباً إلى معلومات استخباراتية في الشؤون الداخلية للدول، إلى مزيد من الضغوط لتحديد أبعادها ومستوياتها وأشكال تجلياتها. وهذا يدعو إلى إعادة النظر بمفهومي الديمقراطية والسيادة كونهما يتأثران بفوارق القوة والتوازنات الجيو سياسية ـ الاقتصادية. وقد بات واضحاً أن سيادة الدولة تقلّصت إلى درجة تحولت في ظل العولمة إلى أجهزة جباية ومؤسسات تخدم الشركات متعددة الجنسيات وأساطين المال. والعولمة في هذا المستوى تعبير عن نظام متشابك من المصالح اللانهائية التي تُديرها مراكز قوة فوق الدولة ومن خلالها. لذلك ينبغي ضبط مفهوم السيادة وهوية الدولة الاقتصادية والسياسية من منظور الحركة والتحوّل. وتجاوز المعاني المتقادمة لأسئلة النهضة الأولى، فالدولة في ظل هيمنة خطاب وآليات العولمة الأميركية تواجه فقداناً لمعناها باتجاهين: الأول اندغامها بكيانات كبيرة، والثاني نكوصها إلى كيانات صغيرة فيصبح مفهوم السيادة ـ الدولة نتيجة لذلك أكثر هشاشة. وذلك يستوجب تأكيد أهمية الانتقال في سياق مترابط ومتزامن إلى:
ـ نظام سياسي ديمقراطي يضمن مبدأ المشاركة والحقوق والمواطنة ـ نمط اقتصادي اجتماعي يحقق العدالة الاجتماعية ويضمن التوزيع العادل للثروة الوطنية ـ تجاوز أشكال الوعي الماضوي المتخلف الذي ما زال يهيمن على بنية وآليات التفكير، ويجب أن يكون ذلك في سياق تأسيس وعي مدني ديمقراطي يقطع في بنيته وآليات اشتغاله المنفتحة على التطور، مع المتخلف من الماضي.
وذلك يحتاج إلى وضع مقدمات فكرية وسياسية لنقد وتحليل بنية النظام السياسي العربي، تركيبة المجتمعات العربية، النمط الاقتصادي المسيطر، النمط الاقتصادي والسياسي المهيمن عالمياً. ونشير إلى أن المستويات السابقة محكومة بالترابط والتشابك والتوسّط. لذلك يجب أن تتم دراستها بشكل متزامن وفي سياق واحد.
* باحث وكاتب سوري