تحول ملفت واختراق سريع، واندفاعة نحو العمق، وسقوط تقاطع المحافظات الثلاث، حماه – ادلب – اللاذقية. بهذه السرعة، بدت صورة الأحداث متسارعة في سوريا في الأسابيع المنصرمة، وطرأت تغييرات ميدانية، وفرضت وقائع جديدة تخطت المراوحة، والتراشق، والكر والفر، وتبادل السيطرة، وحدث اختراق يؤسس لمواجهات مصيرية، ولم يعد مسألة تكتيكية نجاح المعارضة بالسيطرة على إدلب، وجسر الشغور، والتوغل نحو ريف حماه الشمالي، والتقدم باتجاه أريحا – جبل الأريحين.
صبيحة 25 – 4 – 2015 شنت الفصائل المسلحة هجوماً كبيراً من محاور عدة، فتحركت الخلايا النائمة في كل من بلدات وقرى جسر الشغور: كفر تخاريم، كفريا، بنش، سراقب، سرمدا، سرمين، سلقين، عين السوده، تل حمير، تل المنطاد، عين البارودة، تولين، غاينا، بشلامون، القنية، التمانعة، القرقورة، الطنجرة، بالتزامن مع قصف مدفعي وصاروخي من ريف اللاذقية، جبل الأكراد، سلمى، ربيعة، جب الأحمر، ما أحدث إرباكاً لدى وحدات الجيش السوري، ولجان الدفاع الوطني. انطلق المهاجمون من المحور الشمالي باتجاهين الأول: الجانودية، بداما نحو جسر الشغور والثاني من دركوش نحو سهل الغاب.
في الحروب عادة،
تعطى الأفضلية
لتحرير البقع الصغيرة
لمنع تمددها

أدى التنسيق الجيد بين الحركة والنار إلى إحداث خلل في بنية المدافعين، فيما بدا أنه مشاغلة داخلية، وهجوم خارجي، ما فرض انسحاباً سريعاً لوحدات الجيش إلى معسكر المسطومة ومدينة أريحا. وبذلك نجح المهاجمون في خرق دفاعات الجيش السوري، والسيطرة على جسر الشغور، كما سقط معسكر القرميد، وحواجز سهل الغالب، الفريكة، الزيارة، قسطون، التنمية، مبنى المشاريع، المشيك، بالرغم من أن القوات المسلحة السورية كانت تعد لهجوم لاستعادة مدينة إدلب، وكانت التحضيرات تجري على قدم وساق لتلك المعركة، وتم حشد القوات الخاصة بقيادة اللواء محي الدين منصور من المحور الجنوبي، وفوج العقيد سهل الحسن في معسكر المسطومة، وجرت محاولة تقدم نحو كفر نجد، نحليا، المقبلة.
سرعان ما انقلبت الأمور في الشمال السوري، وشنت المعارضة هجوماً كاسحاً من الجهة الشمالية أدى إلى تعطيل هجوم الجيش ودفعه إلى التراجع، واختراق خطوطه الدفاعية، والسيطرة على نقاط تجمعه، والتوغل في مساحة كبيرة تمتد من سهل الغاب (حماه) جسر الشغور (إدلب) وصولاً إلى أطراف قمة النبي يونس ــ جب الأحمر (اللاذقية). وكان قد سبق هذه الانتكاسة انتكاسات أخرى، منها مدينة ادلب، وبصرى الشام، ومعبر نصيب ما طرح تساؤلات عن أسباب تراجع الجيش على جبهات عدة، وتسجيل انتصارات للمعارضة.
منذ أن بدأ الجيش السوري وحلفاؤه التلكؤ في حسم ما تبقى من جيوب، وبؤر منتشرة داخل مناطق نفوذه كحمص وحماه واللاذقية ودمشق وريفها، دخلت قواته مرحلة الانكماش والترهّل ما انعكس على أداء القوات المسلحة ما أدى إلى فقدان القدرة على المواجهات الشاملة. فانتشار الجيش حول تلك البؤر والجيوب ساهم في تشتت العسكر، واستنزافه، وإنهاكه، وحوله إلى ميليشيات تقاتل بطريقة التراشق، وتبادل النار، والقذائف الصاروخية، وبالتالي أعطى المسلحين وقتاً كافياً لإعادة التنظيم، وهيكلة المجموعات، وتحصين مواقعها لمعاودة الهجمات بشكل اوسع وأشمل. ربما قد يكون مفيداً أحياناً لأي جيش ترك جيوب صغيرة في سياق هجوم عام، وشامل على مركزية المعارضة، ومن ثم معاودة تطهيرها وتنظيفها لاحقاً، إنما أن تترك لتتحول إلى نقاط صلبة، ومن ثم قاعدة انطلاق تهديد، فهذا أمر غير مفهوم في العلم العسكري.
منذ أن بدأ الجيش السوري الهجوم على مدينة القصير في 19 – 5 – 2013، مروراً بغرب العاصي، واستكمالاً باتجاهين: القلمون وحمص القديمة، إضافة إلى توسيع دائرة الأمان لمدينة دمشق، وفتح الطرق الرئيسية لمدن حلب – حماه – درعا، كانت تترك ممرات آمنة لانسحاب المسلحين مع أسلحتهم الخفيفة والثقيلة. قد يكون إجراء كهذا صحيحاً في إطار الخطة التكتيكية، ولكن شرط ألا تتحول أسلوباً ونهجاً في إدارة المعركة. فترك تلك البؤر من دون إضعافها، وإنهاكها، جعلها قنابل موقوتة، سرعان ما تحولت إلى قواعد انطلاق لأعمال حربية جديدة، ما هدد ويهدد الإنجازات التي حققت سابقاً، ويبخّر التضحيات. فسقوط مدينة يبرود، وعامة البلدات المحيطة، كان يحتم على الجيش استكمال الهجوم لاستئصال المسلحين المعارضين له، بدلاً من السماح لهم بإعادة التجميع في سلسلة الجبال، أو بقائهم في أرياف حمص وحي الوعر، أو الاكتفاء بإبعادهم عن مدينة دمشق وتركهم في الغوطة.
أدى ذلك التمهل والتريث إلى تعزيز مواقع المسلحين وتحصين مراكزهم علماً أنه كان ممكناً تنظيف تلك الجيوب والبؤر في ظل انهيار المجموعات عقب سقوط المدن الرئيسية التي كانوا يتحصنون فيها. ففي لحظات كهذه تكون المجموعات في حالة انهيار وإحباط، ويسهل إنهاؤها، وإبطال فعاليتها. ففي الحروب لا يوجد أسلوب اسمه نصف هجوم.
ومن المعروف أنه في الحروب عادة، تعطى الأفضلية لتحرير البقع الصغيرة لمنع تمددها، وتحولها إلى نقاط ارتكاز كمنطلقات للعمليات، أو كمحاور قتال للاستنزاف والتراشق. فتأمين المساحات تعطي الجيش سيطرة مركزية للتجميع والتحشيد، ومن أجل توفير قدرة أكبر للحركة والتنقل على امتداد المناطق، بخاصة أن الجيش يحتاج إلى هامش للتحرك باتجاه المناطق المتاخمة للحدود الأردنية، والتركية، واللبنانية، والعراقية انطلاقاً من الثبات كجيش تقليدي يفضل الخطوط الجبهوية – الصدامية المباشرة، فكان عدم حسم البؤر يفرض على الجيش مواجهة أكثر من 450 نقطة اشتباك، وهذا أدى إلى استنزاف عددي. فبمقدور الكتيبة العسكرية الانتشار في ما يقارب بين الـ5 إلى 6 كم عند قتال الحدود أو تخوم المدن، بينما يحتاج كل حي إلى كتيبة، وإذا افترضنا أن كل نقطة اشتباك تحتاج إلى 50 عنصر، فمجموع النقاط تتجاوز طاقة الجيش، وأي جيش آخر، تغطيتها كلها، إضافة إلى أن كثرة نقاط الاشتباك تعطي المسلحين هامشاً اكبر للمناورة والمشاغلة داخلياً، ما يهيئ أرضية لهجمات مركزية عبر الحدود.
لم يكن انسحاب الجيش من معسكري وادي الضيف والحامدية أو من الفرقة 17 في الرقة، أو من مطار الطبقة مبرراً إلا في حالة إعادة التجميع لبدء هجوم واسع النطاق. أما التوقف عند مدينة مورك، والإبقاء على كفرزيتا واللطامنة في ريف حماه وسراقب في إدلب هو هدر وإضاعة جهد، وعمل طويل مضنٍ، وشاق وتضحيات جسام. ولو استكمل الهجوم من مورك باتجاه معرة النعمان - سراقب، لكان أعطى الانسحاب من وادي الضيف بعداً استراتيجياً وتحولاً تكتيكياً في سير المعارك.
جاء الهجوم على جسر الشغور في غمرة تطور الاشتباك في الساحات المشتركة والمتصلة في اليمن في العراق ليفرض وقائع جديدة، وكأنه كسر للتوازن، وتقدم للمعارضة وتراجع في أداء الجيش، لماذا؟
حقيقة الأمور ليست كذلك، فلا تزال الأرجحية للجيش، ولكن تجب إعادة النظر في طريقة عمل القوات المسلحة، والاستفادة من بعض الأخطاء، وإعادة تقييم مسرح العمليات والمناطق، خاصة المتاخمة للحدود التركية وهذا ممكن، فلا يزال الجيش يمتلك المبادرة والقدرة، فبالرغم من الهجوم المفاجئ والكبير لم يفقد الجيش القيادة والسيطرة، كما حدث في العراق في نينوى والأنبار والموصل ما أدى إلى سقوط المحافظات في غضون ساعات، بينما نجح الجيش السوري في احتواء الهجوم، وبادر فوراً إلى هجوم مضاد بمن تبقى من قوات، وهذا يشير إلى دينامية عالية، وشجاعة فائقة تفرض إعادة النظر في آليات العمل القديمة. فمعالجة الخلل الكامن في قيادة الجيش أصبح ضرورة، خاصة إعادة الهيكلة، فالأسلوب القديم، أو طرق الجيش التقليدي – النظامي، لم يعد يتناسب مع ظروف المواجهات والوقائع الميدانية.
تفرض الحروب دائماً إعادة كودرة وهيكلة، وتحويل الوحدات والألوية إلى قوات متخصصة بحروب العصابات، وقتال المدن، أي المزاوجة بين النظامي والأنصاري، وهو ما يعرف الآن بالأسلوب المركب. فاتساع مسرح العمليات يتطلب مجموعات صغيرة، تعمل خلف خطوط العدو عبر إغارات، وإنزالات جوية، وضرب طرق الإمداد، وعمليات خاطفة (كر وفر) بالتنسيق مع الوحدات النظامية لتأمين وسائط نارية، وإسناد لإنهاك واستنزاف بؤر المسلحين، والتركيز على أعمال الرصد والاستطلاع. فمشاغلة نقاط الاشتباك تفرض على المسلحين البقاء في إطار الدفاع السلبي، بينما تكون وحدات الجيش في الدفاع الحيوي. وما جرى في إدلب هو أقرب إلى الانتفاضة الداخلية مع مؤازرة خارجية، أي تحركات من الأرياف والمناطق الحدودية. وأزاء هذه الوقائع، يفترض التساؤل: أين كانت مجموعات الرصد والاستطلاع، والاستخبارات؟ فمن الواضح أن القوات المدافعة كانت تفتقر إلى المعلومات الكافية.
تساؤلات أخرى كثيرة تطرح في هذا السياق، منها: كيف نجحت المعارضة بتحريك الخلايا النائمة في ظل الوجود العسكري للنظام؟ ولماذا تستطيع المعارضة إنشاء خلايا نائمة في مناطق الدولة، بينما تعجز الدولة عن فعل ذلك في مناطق المعارضة؟ أسئلة تحتاج إلى أجوبة بدلاً من توزيع الاتهامات، فالمهاجمون انطلقوا من داخل المناطق السورية لا العكس، وما حصلوا عليه من أسلحة من مستودعات الجيش السوري أكثر بكثير مما حصلوا عليه من الدول، وعلى سبيل المثال، يمتلك المسلحون 166 دبابة روسية كغنائم ومئات صواريخ الكورنيت.
لكن من جهة أخرى، يسجل للجيش، وضباطه الصغار نجاحاً كبيراً بكسر هجوماً كان من الممكن أن يؤدي إلى قلب موازين المعركة، ومن ثم المبادرة والقيام بهجوم مضاد في غضون ساعات، واستعادة عشرات المواقع والبلدات ضمن مروحة كبيرة تمتد من ريف حماه الشمالي – الغربي (سهل الغاب) حاجز الفريكة – الزيارة - قسطون – التنمية – مبنى المشاريع – تل واسط – السرمانية – المشيك، وقطع طريق إمداد المسلحين من جبل الزاوية، والتقدم نحو المناطق الواقعة جنوب جسر الشغور، وأيضاً نحو معمل السكر – تولين.
وشرقاً، كان يمكن توسيع المساحة التي يسيطر عليها الجيش من تلة النبي يونس، والسيطرة على جب الأحمر، وتلة سيرياتيل، وتأمين طريق المسطومة – أريحا، والحفاظ على المستشفى الوطني في جسر الشغور كموقع متقدم ليكون رأس جسر لمعاودة السيطرة عليه.
لا شك أن اندفاعة المسلحين إلى عمق مناطق الجيش السوري والوصول إلى تخوم الساحل السوري ربما يكون قد حرّر الجيش من تشتت جيشه المنتشر حول عشرات البؤر والجيوب المتداخلة، وهذا لمصلحته كون الاشتباك أصبح جبهوباً – صدامياً.
كما أن المجموعات المهاجمة تحولت عملياً إلى اهداف سهلة في جغرافيا واسعة وكبيرة من الصعب على المسلحين التمسك بها، وستكون لهذا التوغل تداعيات عسكرية وأكلاف باهظة لن تستطيع المعارضة تعويضها بسهولة، وستخسر ضعف ما كسبته، وستكون تلك الاندفاعة شبيهة بالمحاولات الفاشلة المتكررة التي جرت على دمشق مرتين، وعلى كسب، والتي كان الجيش السوري بعد كل محاولة منها ينهض، ويحقق مزيداً من
الانتصارات.
* كاتب لبناني