زياد حافظ *
أطرح هذا السؤال من باب الحرص على المقاومة في لبنان وما تمثله من وجه للمشروع الوطني في لبنان وللمشروع العربي النهضوي للأمة العربية. والسجال السياسي الدائر الآن حول سلاح المقاومة ليس إلا ظاهرة تعبّر عن خشية «الأكثرية» البرلمانية من البحث في العمق عن هوية لبنان وطبيعة الدولة التي يجب بناؤها وفقاً لمعايير تمكّن الدولة من تنمية المناطق وتحقيق الرفاهية لمواطنيها وحماية مواطنيها من الاعتداءات والاملاءات التي تخدم مصالح المشروع الامبريالي والصهيوني. وهذا السجال المتواصل قبل وخلال وبعد الحرب الاسرائيلية على لبنان، في المقاومة وسلاحها، سجالٌ يخدم فقط السياسة الاميركية والمصالح الصهيونية. ان قدر لبنان، بوجود الكيان الصهيوني على حدوده الجنوبية وأطماعه المعروفة والمدوّنة في مياه لبنان وثرواته وضرورة إنهاء التعددية والنوع الموجود في المجتمع اللبناني، قدر هذا الوطن ان يكون في صدارة التصدي والمواجهة لذلك الكيان بغضّ النظر عن سياسات وتوجهات الانظمة العربية. فالوجود الصهيوني هو تهديد دائم للوجود اللبناني والعيش المشترك بين أبنائه. ولقد أثبتت الوقائع ان ما يسمى «المجتمع الدولي» ليس حريصاً على لبنان بل على حماية اسرائيل كما أقرت المستشارة الألمانية إنجيلا مركل وصدّق على ذلك البوندستاغ (البرلمان الألماني). أما في ما يتعلق بالموقف الاميركي فلا داعي للتحدث عنه!
فالسؤال إذاً كيف تُحمى المقاومة؟ ليس هناك من اجابة واضحة وصريحة بل أكثر ما يمكن التفكير فيه هو منهجية للعمل السياسي والثقافي للمرحلة المقبلة. إذ بات واضحاً ان تلك المرحلة هي مرحلة مواجهة وتصدٍّ قد تأخذ شتى الاشكال لترسيخ ثقافة المقاومة التي ستحميها. وفي هذا الصدد أعتقد ان هناك واجبات ومسؤوليات تقع على عاتق المقاومة كما هناك واجبات على كل من يؤمن بعروبة لبنان والمشروع النهضوي العربي للبنان وفي سائر الاقطار العربية.
وقبل البدء بالبحث والنقاش في المسؤوليات والواجبات المشتركة لا بد من التوقف عند الخطاب السياسي السائد لدى خصوم المقاومة وثقافتها.
ان ما يلفت النظر ان أعداء المقاومة حريصون على تغييب الانتصار بل الى نفيه أولاً وتحجيم الظاهرة التنظيمية التي قادت المقاومة الى المرحلة السابقة حتى الآن ثانياً. فتغييب النصر يبرز في خطاب الأكثرية البرلمانية ورموز 14 آذار عبر التكلم فقط على الخسائر في البنى التحتية وتضخيم عدد الشهداء كما جاء في خطاب النائب سعد الحريري في مأدبة إفطار أعدها لدعم الرئيس فؤاد السنيورة، وكأن الحرب أتت فقط بكارثة على لبنان من دون الصمود والانتصار. الشعوب تتميز بمواقفها والمواقف تتميز بالاعتزاز بالوطن وحمايته من دون الالتفات الى كلفة تلك الحماية. فالاتحاد السوفيتي دفع ضريبة بشرية باهظة جداً لمنع هتلر من التلذذ بالوصول الى موسكو. وقد خسر ما يوازي أكثر من مليون قتيل في معركة تحرير ستالينغراد من الاحتلال الألماني، وخسر أكثر من 25 مليون قتيل خلال الحرب العالمية الثانية مقابل الانتصار الذي حققه على الزحف النازي من دون ان يقلل من حجم الانتصار أو يضخم الكلفة البشرية الباهظة. ولا يجب ان يغيب عن بال القراء ان رموز 14 آذار يتحمّلون مسؤوليات كبيرة في مسار الحرب الأهلية اللبنانية من قتل وهدم وسرقات ومن هدر أموال السلطة تحت غطاء الإعمار رافضين المساءلة والمحاسبة، ويُستنتج من كلام التشكيك لرموز 14 آذار بالصمود والنصر، ان المقاومة والتصدي للعدوان الاسرائيلي والدفاع عن الأرض وعن المواطنين والسعي لتحرير الاسرى اللبنانيين القابعين في سجون الاحتلال أصبح كل هذا من باب «المغامرة» غير المحسوبة إن لم يكن «خيانة» في حق الوطن الذي ما زال يعاني كلفة «اعمار» الوسط التجاري في بيروت!
ومن ملامح ذلك التحجيم هو التكلم على حزب الله كممثل لطائفة فقط لا غير وإن سلّمت تلك القوى المناهضة للحزب بذلك على مضض. والجدير بالذكر ان السيدة كوندوليزا رايس تتكلم على تراجع «شعبية حزب الله وان بوادر التفتّت الشعبي» باتت حاصلةً! أي بمعنى آخر لن يكون للحزب أي أفق وطني أو حتى قومي لعمله، وذلك ليتم حصره في زاوية الطائفية والمذهبية حتى مع تأكيدات سيد المقاومة أن النصر هو لكل لبنان بل للأمة العربية وان سلاحها موجّه ضد العدو الصهيوني فقط. أما الشكل الثاني للتحجيم فهو عبر الاشارة إلى المتن الديني للحزب وما يمكن ان يرافق ذلك من تحفظات عند مختلف شرائح المجتمع اللبناني وخاصة ان الخطاب السياسي والثقافي للحزب يعبّر عن تلك الخلفية الفكرية. فعلى سبيل المثال هناك من يعترض على «النصر الالهي» علماً ان المقصود بتلك العبارة هو تعبير عن تواضع أخلاقي تجاه انجاز ضخم ويختلف عن تفسيرات مناهضي الحزب الذين يطعنون في كل ما يصفوا به الحزب بانه خطاب اسلامي بامتياز مع ما يرافقه من مخاوف وتحفظات لـ«النيات المبيتة» لأسلمة لبنان وفرض الدولة الاسلامية. وعلى صعيد آخر هناك من يعتبر نفسه على «اليسار» ويعيب على خطاب المقاومة «عدم ثوريته» لانه لا يلتفت الى معاناة الشعب اللبناني الذي يرزح تحت وطأة الحرمان واللامساواة والتخلف الاقتصادي والاجتماعي.
فبما ان حزب الله أصبح في المواجهة السياسية والثقافية فالتعرض له أصبح «مشروعاً»! والشكل الثالث والأخير هو سلخ «وطنية» الحزب و«استقلاله» بجعله أداة لطموحات دول إقليمية! وبالتالي التفاوض مع الحزب مضيعة للوقت والأهم هو التفاوض مع «معلميه»! اذاً هناك محاصرة مدروسة وممنهجة للحزب ولخطابه السياسي.
ويبقى السؤال: ما العمل؟ كيف تمكن المحافظة على نهج ثقافة المقاومة من دون تبنّي بالضرورة الطروحات الايديولوجية لحزب الله؟ أجاب سيد المقاومة على ذلك في مهرجان النصر الذي أُقيم في الضاحية في 22 أيلول ـ أي عبر بناء الدولة الحديثة العادلة القوية المقاومة. واذا كنا نوافق على ذلك بل كنا من المطالبين بذلك منذ منتصف السبعينيات ـ فنحن جيل ثورة يوليو ورواد الحركة الوطنية اللبنانية التي أجهز عليها كل من تحالف مع النظام العربي (التفاهم السعودي السوري) وأمراء المال وقياديو تلك الحركة الذين تخلوا عن إرثها ـ إلا اننا في الواقع نستبعد قيام تلك الدولة في المدى المنظور ما دام النظام الطائفي هو الذي يحكم لبنان، بل نقول أكثر من ذلك إن بناء الدولة المقاومة لن يكون الا بتفكيك بنية النظام الراهن واستبداله بنظام وطني يوفر الحماية للمواطن والارض.
فإذا كانت الدولة القوية العادلة التي ينادي بها سيد المقاومة ـ ونحن معه في ذلك ـ بعيدة المنال فماذا يمكن العمل حتى تصبح تلك الدولة ممكنة؟ فكما ذكرنا أعلاه هناك واجبات على الحزب وواجبات على المثقفين الممانعين للمشروع الصهيوني. أما المطلوب من الحزب فهو الخروج من حالة «الأمر لي وعليكم تأييدنا فقط لا غير». فعلى المقاومة في شكل عام والحزب في شكل خاص توسيع رقعة المشاركة في صنع المقاومة وترويج ثقافتها. فهناك قوى عديدة وتجمعات شعبية تستطيع ان تقوم بمهمات كبيرة في ذلك الاطار، لكنها لا تستطيع الانخراط في صفوف حزب الله. هذه الصيغ الجديدة قد تأخذ أشكالاً عديدة منها صيغة المجلس الوطني للمقاومة الذي يفرز المهمات والقوالب التنظيمية المطلوبة في الظرف الراهن وفي المستقبل القريب. فمهمات ترويج ثقافة المقاومة بين اللبنانيين تقع على الجميع ولذلك لا بد من اطار تنظيمي.
من هذا المنظور يمكن ضم كل الأحزاب والقوى الوطنية والتجمعات الشعبية والمثقفين في المجلس الوطني الذي يشكل غطاء حامياً للمقاومة وللحزب. وإن الجيش اللبناني قد يكون شريكاً في حماية الوطن ويُنسّق معه وتُوزّع المهمات. وذلك المجلس لن يكون بديلاً من الحزب بل تتويجاً لمسار المقاومة التي بدأت وطنية ثم أصبحت اسلامية بسبب ظروف إقليمية والآن تعود بوتقة وطنية شاملة. فتحويل المقاومة الى حالة وطنية شاملة هو الرد الاستراتيجي على كل من يحاول النيل منها. وإن ثقافة المقاومة قد تشكل اللبنة الاولى لبناء الدولة العادلة القادرة القوية المقاومة.
فهي الرد الصحيح على كل من يقول انه لا يمكن تعايش الدولة والمقاومة. وهذه الثقافة هي المدخل الطبيعي لتفكيك النظام الطائفي والقضاء على ثقافته المدمرة لأنها تطرح المسألة الوطنية في إطارها الصحيح الذي يأخذ بعين الاعتبار مصالح الوطن أرضاً وشعباً.
من أهداف ترويج تلك الثقافة المقاومة إيجاد شبكة من النشاطات الاقتصادية ـ زراعية وصناعية وخدماتية ـ والاجتماعية التي تزيد ارتباط المواطن بأرضه وتقلل امكانية فرص النزوح. وهذه النشاطات تتكامل مع سياسة دفاعية شاملة منها حماية الأجواء اللبنانية من الاعتداءات الاسرائيلية عبر شبكة صواريخ مضادة للطائرات علماً ان هذه الشبكة من مسؤوليات الدولة والجيش اللبناني. فعلى سبيل المثال هذه المنظومة من النشاطات تهدف الى بناء شبكات من الملاجئ التي تحمي المواطن في العدوان الجوي والبري وتمكن استمرار حضن المقاومة وتحصينها. وبناء هذه الملاجئ وتجهيزها من مولدات كهربائية ومضخات للمياه وامكانيات للاسعاف الاولي وصيانتها أيام الهدوء تُوجد قطاعاً اقتصادياً برمته من السلع والخدمات التي ينتجها.
أضف الى ذلك شبكة من الطرق الخلفية التي تمكن التواصل بين القرى في حال هجوم على الجسور وقطعها. وإن هدف ترويج هذه الثقافة هو محاصرة الخطاب الانهزامي والتشهير والتنديد بكل من يتفوّه به. نعم، هناك خطاب يشكك في جدوى المقاومة وهذا الخطاب هو خطاب الخيانة بامتياز. لا داعي للتهرّب من مواجهة الخطاب الخياني. فالخيانة التي أصبحت «وجهة نظر» مع أنور السادات ليست موضع اجتهاد. هناك من يريد التصدي ومواجهة الاحتلال الصهيوني وأطماعه وهناك من يريد مهادنته بحجج واهية. والذين يشككون في جدوى المقاومة ونهجها هم الذين حملوا كل أوجه الفساد والظلم. فمنهم من تعاون بالأمس مع اسرائيل ولم يتعلم شيئاً من دورس التاريخ ومنهم أيضاً الذين «نقلوا» بندقيتهم من كتف الى كتف وذهبوا يخطبون ودّ السفارات الغربية، وهم الذين «يثقون» بالضمانات الخارجية، ومنهم الذين يستقوون بالدول الخارجية على أبناء بلدهم، وهم الذين يحرصون على مكانتهم السياسية داخل طوائفهم وهم الذين يخشون إغضاب من يمدّهم بالمال الريعي وصفقات السمسرة ومنهم من يضخّم الخسائر الناتجة من العدوان لعلّهم يحصلون على نصيب من أموال اعادة الاعمار، وهم الذين يحصون الارباح والخسائر وكأن الوطن شركة تجارية!.
أما المسؤولية الواقعة على عاتق الممانعين للمشروع الصهيوني فهي عديدة. أولاً عليهم واجب محاصرة الخطاب التشكيكي في جدوى المقاومة. من هذه الزاوية يجب كشف عدم صدقية وعدم جدّية رموز 14 آذار في بناء الدولة التي «لا تستطيع أن تتعايش مع منطق المقاومة». فهذه الرموز معنية أكثر بتقاسم السلطة بينها منها ببناء دولة ووطن. ففي السابق تعايشت بامتياز مع المقاومة بل «لُزِّمت» واجب التحرير بينما كانت «منهمكة» في هدر أموال الدولة في أكبر عملية سطو عرفها لبنان، كلفتها دين متراكم الى أكثر من أربعين مليار دولار. وبالتالي وجب فضح كل من شارك في تلك عملية السطو وطلب إحالته على المحكمة.
ثانياً، عليهم أيضاً فرض النقاش وجدول الأعمال على الحزب من أجل توسيع رقعة المقاومة لتصبح وطنية ولينتقل السجال من المعقل الطائفي المذهبي الى حوار وطني بين قيادات وطنية ليست مذهبية كما حصل في جلسات الحوار الذي رعاه الرئيس بري والذي وصل الى طريق مسدود. هذا النقاش يحدد المسؤولية والواجبات على كل طرف من المشاركين في المقاومة الوطنية.
ثالثاً، عليهم ان يتقدموا بمشروع متكامل عن اعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين المواطنين والمناطق من ضمن استراتيجيا دفاعية للبنان.
فلبنان الملهى والمعلف قد ولى زمنه ومطلوب الآن بناء لبنان المقاوم وصاحب الرسالة النهضوية الانسانية.
رابعاً، عليهم التحاور مع سوريا للنظر في طبيعة العلاقات بين البلدين بعد مراجعة التجربة الماضية من اجل تنقيحها من كل ما أفسد العلاقــــة بينهما ومن اجل توثيق العلاقات على أسس تتجاوز الضغوط الخارجية التي تهدف الى تفكيك أواصر العلاقة بين البلدين.
خامساً، عليهم بناء العلاقات وترسيخها مع كل حركات المقاومة والتحرر في الوطن العربي وفي الدول والقارات التي تقف ضد الهيمنة الاميركية.
* كاتب وباحث لبناني مقيم في الولايات المتحدة