1ــ القانون المقصود هنا إنما هو القانون التشريعي القائم على الجعل والاعتبار، وخصوص القانون البشري المعتمد على جعل واحدٍ أو أكثر من الناس في قبال القانون التشريعي الإلهي.أمّا الحق المقصود بحث العلاقة بين القانون البشري وبينه فهو القضايا الواقعية التي لا تعتمد في ثبوتها على وجود جعل ولا جاعل، ولا يغيرها جعل ولا اعتبار.
وهي قضايا تمثل ميزان الفكر البشري، فما ابتنى عليه منها ووافقها صحّ وما خالفها فهو من الخطأ. ذلك كقضيّة العلية، وقضية عدم اجتماع النقيضين، وعدم ارتفاعهما، وقضية عدم اجتماع الضدّين.

ومن الحق المقصود هنا القضايا الأصل التي تمثل ميزان ما عليه العمل من الإنسان وقراراته وحكمه وقضائه وتشريعاته من مصلحة أو مفسدة، وما يترتب عليه كمال النفس الإنسانية ونقصها، ومن نجاح المجتمع الإنساني وفشله. وفي مقدمة هذه القضايا الثابتة واقعاً بلا حاجة إلى جعل حسن العدل، وقبح الظلم.

2ــ العلاقة بين الحق والقوانين البشرية
ليس كل قانون من هذه القوانين مطابقاً للحق، وليس كل حق يناله القانون. وما أكثر القوانين المنافية للحق، والمخالفة للمصلحة والمحققة للمفسدة، وما أكثر الحق الذي يتخلف عن إدراكه القانون.
ومخالفة القانون البشري للحقّ مرة تكون عن عمد من واضع القانون، وقد تكون عن جهل لمحدودية المعرفة البشرية وضيق أفقها.
فمن ناحية انطباق القانون البشري والحقّ لا تلازم بينهما وكثيراً ما يفترقان، على أنه ليس من الحق أن يستقل الإنسان في التشريع لنفسه ولمجتمعه حيث لا يملك نفسه أمام ملك الله وإنما هو وحياته وقدرته من عطاء ربّه وهو وحده المالك لكل شيء من أمره. والإسلام يرفض أن يكون للإنسان أن يشرع لنفسه وحياته مستقلاً وبإرادته.
وعن مفهوم الحق ومفهوم القانون البشري فهما مفهومان مختلفان، هذا له معناه، وذاك له معناه.

3ــ لماذا توضع القوانين؟
للتطبيق من قبل المجتمع الذي توضع له، ووظيفتها الأخذ به على خطّ العلاقات العادلة والكمال، ومنع التعديات والجريمة، وحفظ الحقوق، والجزاء العادل للمسيء والمحسن.
وهذا يتطلب أمرين معاً؛ أن تكون هذه القوانين مصيبة للحق متمشية معه، وأن يكون معها ما يدفع المجتمع للاستجابة لها.
والاستجابة للقانون إمّا للإيمان بقيمته وعدله وصحته وبدافع من الضمير والشعور الخلقي الراقي، وإمّا للرقابة الإلهية أو البشرية المستتبعة للعقوبة للمخالفة.
ولا يأتي الخوف من الرقابة الإلهية بشأن القوانين المجعولة من الإرادة البشرية المخالفة لإذن الله سبحانه.
أما الرّقابة البشرية فقاصرة في كثير من الموارد عن تغطيتها واستيعاب كل أوقات الإنسان وحالاته مما يفقد هذه القوانين والرقابة البشرية المستندة إليها الفاعلية في كل هذه الموارد.
إن أقدر القوانين على أداء وظيفتها هي القوانين الإلهية في المجتمع المؤمن، في ظل تربية إيمانية كافية، حيث تتوافر في ظل هذه التربية حيوية عالية للضمير الخلقي ويغزر الشعور باحترام النفس لكل ما هو من الله عز وجل. وإن لم يكن هذا فالرهبة من عقوبة الله التي لا يفوتها مستحق، ورقابته التي لا تغيب، وهي رهبة رادعة لمن تحدثه نفسه بمخالفة قانون من قوانين الله عند من يعيشها.
وأمَّا عن القوانين البشرية فما الضامن للإيمان بحقانيتها وعدلها مع كثرة الجهل والغفلة والتسرع والانطلاق من العواطف الارضية الضاغطة والانفعالات المجنونة عند المشرع البشري القاصر بطبيعته المحدود في معرفته، وما يتاح له من علم وخبرة ودراية؟! ومن أين الوثوق بهذه القوانين التي هذا شأنها، ومن أين ينشأ الاحترام لها؟! وأي رقابة بشرية تطال الكبير والصغير من المقصودين بالقانون في كل الظروف والأحوال والأوقات والتقلبات؟!

4ــ ظلم الحكومات
من ظلم الحكومات ما هو على مستوى التطبيق للقانون العادل أو الظالم. ومنه ما هو ظلم أساسيٌّ في مرحلة التشريع. وتجمع الحكومات المستخفة بالدين والقيم والإنسان بين ظلم التطبيق وظلم التشريع.
ومن ارتكب ظلم التطبيق لم يمنعه مانع من ظلم التشريع.
وشعوب أمتنا محنتها قاسية مرهقة، وشقاؤها واسع مقيم من الظلمين معاً مما يجري على يد السلطات الحاكمة. وعن القانون الظالم فظالم من يضعه، وظالم من يقضي به وظالم من يُجري عقوباته وتجاوزاته للحقّ على الناس، وظالم من نفّذه من الذين شرّع لهم عن رضى وإرادة حرة. ولا يعذر إلّا من أخضعه الإكراه الذي لا يمكن دفعه للاستجابة له. فهل الحياة حياة في ظل القوانين الظالمة؟!

5ــ التشريع الحقّ
وهو ما طابق الحق الثابت واقعاً من التشريع. والواقع العملي لغالبية الحكومات لهذه الأمة يشهد بما تمارسه من وظيفة التشريع المستقل عن تشريع الله سبحانه: إمّا أن تكون رؤيتها أنها أولى من خالق الإنسان، وأنها الاعلم والأعدل والأرأف والأرحم، وإمّا أن ترى صواب تشريعها وخطأ تشريعه بعد أن تكون مؤمنة به وبحقه في التشريع، وإمّا ألا ترى له حقاً في ذلك وإن آمنت به وذلك على أساس إسلامها.
وهناك فرض آخر، وهو أن ممارستها لمهمة التشريع مستقلة عن إرادة الله عزّ وجل، لأنها لا تعير اهتماماً لما هو خطأ أو صواب، أو ظلم أو عدل، استهانة بالحقّ والعدل والصواب.
وإنما كل المنظور هو طلب حماية السلطة ومكاسبها واستمرار التفرد بها، والتحكم في مصير البلاد والعباد.

6ــ الحق ما صدر به تشريع أو قرار
الحقّ في رؤية الحكومات الوضعية، ومنها الحكومات المنتشرة اليوم، والتي تتولى السلطة على شعوب هذه الأمّة هو كل ما أنتجته وتنتجه معامل التشريع الفردية والجماعية من مجالس نيابية تابعة للسلطة التنفيذية وممتثلة لها.
كلُّ ما يصدر عن السلطان أو المؤسسة السلطانية مما هو باطل في نفسه يكون حقّاً بصدوره واعتماده... حقاً لا توقف في استحقاق العقاب لمن خالفه، ولا يمكن أن يتسامح مع من عارضه أو انتقده. هكذا هي رؤية هذه الحكومات؛ تشريع الاستئثار وحرمان الغالبية العظمى من الثروة يجعلهما حقّاً، تشريع التعذيب لانتزاع الاعتراف من البريء لاتهامه من السلطة والتعذيب للسجناء لأنهم سجناء لا شبهة في حقانيتهما بعد تشريعهما، تشريع التهجير وسحب الجنسية من غير وجه حقٍّ يجعلهما حقّاً لا مراء فيه، منع أي مسيرة وأي اعتصام وأي لون من ألوان الاحتجاج السلمي على ظلم السلطة ومنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يبقيان لأحد أن يتكلم فيهما وأن ينجو من العقوبة بعد أن اتصفا بالحقانية بمجرد تشريعهما.
شرع حلية الزنا، شرب الخمر، الرقص، انتهاك الأعراض، سب المقدسات الحقيقية إذا كنت السلطان أو مؤسسة التشريع السلطوية يكن ما شرعت حليته من كل ذلك حلالاً ولا نظر في ذلك إلى كتاب أو سنّة. ولو حرّم التشريع السلطوي الصلاة لحرمت، ولو حرّم الصوم لحرم.
نعم ما يصدر به هذا التشريع فهو المصلحة، وهو الحق والعدل، وليس لأحد كلمة في ذلك أو اعتراض. ​ضع أيّ قانون ظالم من منطلق الهوى العارم، والحقد الأعمى، والجهل المركّب، والعواطف المجنونة يكن حقاً وعدلاً ومقدساً إذا انتمى إلى السلطان أو مؤسسته التشريعية.
هذا هو واقع دنيا اليوم وحكومات الأمة المسلمة إلّا من رحم الله وهدى.
وكل قرار من قرارات السلاطين وحكوماتهم يخرج بالباطل من كونه باطلاً إلى كونه حقاً، ومن صفة الخطأ والضلال إلى صفة الصواب والهداية لمجرد أنه قرارهم الذي يكفي لاكتسابه صفة العصمة، وتثبت به جريمة المعترض عليه وإن كان غالبية شعب أو أمة ذاقوا من ويلات ظلمه وخطئه ما ضاقت بهم منه الحياة.

7ــ العلاقة حسب هذا الواقع
العلاقة بين هذه الأنظمة وشعوبها حسب واقع الهيمنة الشامل الذي تفرضه على الشعوب، وإعطاء نفسها حقّ التشريع المطلق لحياة أبناء الأمة بأجيالها الحاضرة واللاحقة حتى لا يقف في وجه ما تشرّعه حكم الله وتشريعه، وتمنع على الشعوب الاعتراض عليه مع تنفيذه في حق من ترى وإعفائها من ترى من تنفيذه، وتستبدل عن ذلك اتحافه بألوان الجزاء المغري لمضيّه قُدماً في التعاون معها على الإثم... هذه العلاقة إنما هي علاقة استعباد للشعوب واسترقاق للعباد.
أليس استعباداً للشعب أن تتحكم في مصيره كيفما تشاء، وتختار له ما تريد وهو مسلوب الإرادة، ثم تحل سياطك الموجعة على ظهر من يخالف مشتهاك وما تذهب إليه مصلحتك وتحدثك به نفسك؟!
حقّاً إنها علاقة الاستعباد التي يأباها للأمة دينها القويم، وتاريخها المجيد، وصحوتها الإسلاميّة، وانتهاض عزيمتها.
أعزّ الله هذه الأمة وعجّل لها النصر الذي يعيد لها كرامتها ومكانتها ومجدها العظيم.
والحمد لله رب العالمين.

* فَقِيه ومرجعية دينية في البحرين