ذهبت إلى حمص للقاء الأستاذ رياض الترك، بعد أيام قليلة من صدور بيان المطارنة الموارنة ضد الوجود العسكري السوري في لبنان، في 20 أيلول 2000. سألته عن رأيه في البيان، فأجاب «يجب أن نؤيد، وأن لا نعارض، كل من يقف ضد النظام السوري، مهما كان مضمون الموقف، وبغض النظر عن صاحبه». أجبته «هؤلاء يتابعون ما بدأه بشير الجميل الذي تحالف مع اسرائيل». كان ردّه «أعرف ذلك». عندئذٍ، قلت له العبارة التالية، «أنت قائد الحزب الشيوعي السوري ــ المكتب السياسي، ولكن قائدك هو النظام السوري، الذي يقودك، من خلال اتجاهك، إلى بناء مواقفك عبر التعاكس معه».لم يكن الأستاذ الترك هكذا قبل اعتقاله ما بين 28 تشرين الأول 1980 و30 أيّار 1998. وإن كان قد أعطى ملامح عن شيء من ذلك، عندما طبّق مقولة «لا نعارض كل من يقف ضد النظام السوري مهما كان مضمون الموقف، وبغضّ النظر عن صاحبه» على الصراع المسلّح بين «جماعة الإخوان المسلمين» والسلطة السورية، والذي انفجر مع حادثة مجزرة مدرسة المدفعية _ حلب (16 حزيران 1979).
قاد «الحزب الشيوعي _ المكتب السياسي» و«التجمع الوطني الديمقراطي» (أُسّس في كانون الأول1979)، إلى تكتيك سكوتي عن «الإخوان» من دون تأييد أحد طرفي الصراع. طرح خطاً ثالثاً مختلفاً عنهما، وهو «الخط الوطني _ الديمقراطي»، والمقّدم في بيان «التجمّع»، في 18 آذار 1980، والمتضمن لبرنامج تغيير جذري، للأوضاع السورية القائمة.
في شباط1980، وحينما أُفرج عن القيادي في «المكتب السياسي»، عمر قشاش، ردّ الأستاذ الترك بالتجاهل على رسالة شفوية وديّة قدمتها السلطة للحزب. ذكّر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، اللواء علي دوبا، قشاقش، حين التقاه في مكتب رئيس شعبة الأمن السياسي، اللواء أحمد سعيد صالح، بـ«المشترك اليساري بين البعث والشيوعيين، أمام يمينية الإخوان المسلمين».
وخلافاً لما يظن الكثيرون، فإن «الحزب الشيوعي _ المكتب السياسي» لم يكن له أي خطوط مع «الإخوان المسلمين»، في أحداث 1979-1982. بل فُتح أول خط معهم عام 1999، دون علم أمين عام «التجمّع»، الدكتور جمال الأتاسي. وذلك في توجّهٍ عند الأستاذ الترك نحو تكوين استراتيجية لإنشاء «جبهة عريضة معارضة»، يتم من خلالها تجاوز صيغة «التجمع الوطني الديمقراطي»، إذ اجتمعت الآراء حوله بأنه غير مؤهل لمواجهة استحقاقات ما بعد الوفاة المتوقعة، آنذاك، للرئيس حافظ الأسد.
كانت استراتيجية وتكتيك 1979 – 1980 مبنيان على استغلال ظرف الصراع بين طرفين متخاصمين، من أجل طرح «خط ثالث»، مع التركيز ضد التناقض الرئيسي، السلطة؛ بالتزامن مع السكوت، عن ما اعتبر، تناقض ثانوي، «الإخوان المسلمون». وهو، أيضاً، استراتيجية وتكتيك اتبعهما زعيم «جبهة القوى الاشتراكية»، حسين آيت أحمد، في فترة الصراع بين العسكر الجزائريين و«الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، عقب انقلاب 11 كانون الثاني 1992.
هنا كانت المعارضة، بلبنتها الأولى، قد انبنت ضد السلطة السورية، عبر الوقوف ضد الدخول العسكري السوري إلى لبنان في 1 حزيران 1976، والذي كان مدعوماً من واشنطن، ودون موافقة موسكو.
وعندما دخلت العلاقات الأميركية ــ السورية في مرحلة الصدام، بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي، كولن باول، دمشق بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد بيدي واشنطن (9 نيسان2003)، لم يكن رأي الترك بعيداً عن رأي أحد المعارضين، القائل وقتها بأن «وقوف الدبابة الأميركية عند مدينة القائم الملاصقة للبوكمال شبيه بوقوف الباص المتجه إلى دمشق من حلب عند استراحة حمص». ولو أن الترك كان أكثر حنكة كي لا يتوقع السيناريو العسكري، بل كان يظن بأن سيناريو 9 نيسان «البغدادي» سيطبق على دمشق بوسائل أخرى.
لم يتملكه الوسواس تجاه البيت الأبيض وهو الشيوعي، ولا وسواس الزعيم الشيوعي السوري الذي وقف من أجل «الوحدة العربية» وفلسطين ضد موسكو، التي دعمت خالد بكداش في أزمة الحزب الشيوعي السوري عامي 1971-1972، ولا وسواس الزعيم المعارض للنظام السوري الذي بنى جنين معارضته على نطفة معارضة اتفاقية فصل القوات في الجولان، والتي هندسها هنري كيسنجر عام 1974.
في مقابلة مع جريدة «النهار» (28 أيلول 2003)، قدّم الترك نظرية «الصفر الاستعماري»، في رأي إيجابي بالأميركي، وما فعله بـ«العراق المغزو والمحتل»، قال إن «الإميركان نقلوا المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر».
وفي حوار آخر مع صحيفة «نيويورك تايمز» (مترجم على موقع «الرأي» في 23 آذار 2005) يعلن الأستاذ الترك ما يلي: «أنا على يقين بأن الشرق الأوسط جاهز للسير في الطريق نحو الديموقراطية. نحن جاهزون للتخلص من الديكتاتورية. نحن نتفق مع الأميركان في ذلك».
وعلى ايقاع ما حصل في بيروت في 14 آذار 2005 ضد السلطة السورية، والذي جرى بدوره كانعكاس لصراع واشنطن ودمشق على بلاد الأرز في مرحلة ما بعد بغداد 2003، تم تشكيل «إعلان دمشق» (16 تشرين الأول 2005) كـ«جبهة عريضة معارضة» تتهيّأ لكي تلعب في دمشق دور «14 آذار بيروت»، وقبلها دور «المعارضة العراقية في مؤتمر لندن» (كانون أول 2002). لم تكن واشنطن في هذا الصدد تجاه دمشق، بل كانت تريد شيئاً آخر، بحسب مديرة الشؤون العامة في السفارة الأميركية في بيروت، جولييت وور، التي أشارت إلى أن «الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام في سوريا، بل إلى تغيير تصرفاته» (جريدة «السفير»، 14 تشرين أول 2005)، محددةً تلك التصرفات في ثلاث مسارات، على التوالي، العراق، وفلسطين (علاقاته مع «حماس» و«الجهاد»)، ولبنان.
بالمجمل، كان الترك بين تصريحه ذاك في جريدة «النهار» وتأسيسه لـ«إعلان دمشق» لا يختلف عن السيد عبد العزيز الحكيم، لمّا أجاب، في مقابلة تلفزيونية، «لماذا استعنت بالأميركان؟»، قال «لقد قتل صدام حسين المئات من آل الحكيم».
في مرحلة ما قبل 28 تشرين أول 1980، لم يكن رسمه للسياسة هكذا، بينما في مرحلة ما بعد 30 أيار 1998، كان يشبه السيد الحكيم والكثير من المعارضين العراقيين، الذين كانوا ذوي نزعة ثأرية متولدة عن «الحقد»، وهو الوقود المحرّك لعملية رسم السياسة بحكم ما لاقوه من آلام من صدام حسين.
كان ملفتاً للنظر أن ظاهرة الأستاذ الترك لم تكن شخصية، بل عامة عند الكثيرين من المعارضين السوريين، في «إعلان دمشق» و«المجلس» و«الائتلاف»، وخاصّة عند السجناء السياسيين السابقين، أو عند المنفيين. في المقابل، فإن الكثيرين من «الموالين»، في اصطفافات الأزمة السورية، وبعضهم كان من المعارضين السابقين، أصبحوا في خانة «المعارض الموالي»، ينطلقون من نزعة تعاكسية مع الاسلاميين، بحيث أن الأخيرين، أيضاً، هم من يحدد اتجاه هؤلاء عبر «التعاكس»، المتولد من خلال مفاعيل «رهاب الإسلاميين»، وليس «الاختلاف».
في المكتب التنفيذي لـ«هيئة التنسيق»، والذي كان يعد بمئات السنين مجموع سنوات سجن أعضائه، لم يكن «الحقد» و«النزعة الثأرية» مرشدين للسياسة، بل كان ينظر للسياسة بوصفها «إدارة ممكنات لشأن عام غير شخصي»، في بحث عن حل تسووي للأزمة السورية كان هاجس وهدف «الهيئة»، منذ التأسيس عام 2011. ويبدو من خلال «جنيف3» أن هذا الاتجاه التسووي قد انتصر عند غالبية المعارضين السوريين. كان لينين يردد دائماً «الحقد مرشد سيئ في السياسة».
* كاتب سوري