داوود خير الله *
تناولت الحلقة الأولى المنشورة أمس الإطار العام للمحكمة الدولية الخاصة. وفي الحلقة الثانية والأخيرة اليوم مناقشة تفصيلية لبنود المسوّدة بنداً بنداً.
بموجب المادة الرابعة من مسودة النظام الأساسي للمحكمة «عند تعيين المدعي العام وفي فترة لا تتعدّى الشهرين، ستطلب المحكمة الخاصة من السلطات القضائية الوطنية المسؤولة عن قضية الهجوم الارهابي على رئيس الوزراء رفيق الحريري وآخرين، الخضوع لاختصاصها»، وكذلك سوف تحيل السلطات اللبنانية بناء على طلب المحكمة الخاصة الموقوفين ونتائج كل التحقيقات ونسخ عن سجل المحكمة. وبناء على طلب المحكمة أيضاً، «ستخضع السلطة الوطنية المعنية لاختصاص المحكمة». وبذلك يتم التنازل عن كل ما حفظ قرار مجلس الأمن الرقم 1595، الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية، للسلطات اللبنانية من سيادة بالنسبة إلى إدارة التحقيق وتطبيق القانون في شأن الأعمال الجرمية التي رافقت اغتيال الرئيس الحريري وآخرين. فضلاً عن ذلك، إن كفّ يد القضاء اللبناني بصورة فورية وقبل انتهاء التحقيق يبدو مخالفاً لقرار مجلس الأمن الرقم 1644 الذي أقرّ في البند 6 منه طلب الحكومة اللبنانية بأن «يحاكم من توجّه لهم في آخر المطاف تهمة الضلوع في هذا العمل الارهابي أمام محكمة ذات طابع دولي....»، فهل بلغ التحقيق آخر المطاف؟ وهل يجوز اختصار التحقيق أو النيل من وحدته من طريق إحالته على مدّعي عام المحكمة الخاصة قبل تمامه؟
هناك فجوات لجهة القانون الواجب التطبيق من الوجهة الاجرائية والأساسية، تدعو الى القلق. فبالنسبة الى اجراءات المحاكمة وقواعد الإثبات يبدو أن مسودة نظام المحكمة لم تلحظ قواعد معينة لأصول المحاكمات وقبول الأدلة. وفي المادة 28 من مسودة نظام المحكمة يترك لقضاة المحكمة الخاصة وضع نظام اجراءات بعد تأليفها. فإن كان ذلك جائزاً في بعض لجان التحكيم الدولية فهو غير مألوف ويمثّل سابقة خطيرة في القضاء الجزائي.
في الباب الثالث من مشروع نظام المحكمة وخاصة في المادتين 13 و16 منه، يتبنّى مشروع النظام بصورة عامة المعايير الدولية للمحاكمات الجنائية الدولية وخاصة لجهة حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، إلا أنه يغفل الاشارة الى حق الموقوف في طلب تخلية سبيله من المدعي العام لدى المحكمة الخاصة ضمن مهلة زمنية معقولة اذا لم تتوافر لدى المدعي العام أدلّة في حقه تجيز استمرار التوقيف. وهذه فجوة مهمة جدّاً بالنسبة إلى مصير الضباط الموقوفين.
ولعلّ أهم مصادر القلق في مسودة نظام المحكمة الخاصة هو توسيع صلاحيات المحكمة بحيث تمتد، بالإضافة الى جريمة اغتيال الرئيس الحريري، الى أعمال أخرى مماثلة في طبيعتها وخطورتها «حصلت في لبنان بين الأول من تشرين الأول 2004 و31 كانون الأول 2005 أو أي تاريخ لاحق يقرر باتفاق الأطراف المعنية وموافقة مجلس الأمن». إن توسيع صلاحية المحكمة هذا، بالإضافة الى أنه يتعدّى منطوق قرار مجلس الأمن الرقم 1664 الذي هو المستند الأساسي في انشاء المحكمة الدولية، والذي يحصر ولاية المحكمة «بالتفجير الإرهابي الذي أدّى الى مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وآخرين» على أن تُنشأ «محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة جميع من تثبت مسؤوليتهم عن هذه الجريمة الارهابية». وإن توسيع صلاحية المحكمة هذا في الزمان وبالنسبة إلى أفعال جرمية يترك لاستنساب المحكمة تبنّي معايير التشابه في الطبيعة والخطورة مع الأعمال الجرمية التي أودت بحياة الرئيس الحريري، يخالف مبادئ أساسية في القانون الجزائي وخاصة أن قرار مجلس الأمن الرقم 1664 اعتمد كون المحكمة ذات الطابع الدولي يجب أن تستند الى «أعلى المعايير الدولية في القضاء الجنائي». ان قرار توسيع اختصاص المحكمة الى أعمال جرمية قد ترتكب مستقبلاً ويترك للمحكمة القرار في شأن اختصاصها للنظر فيها يصعب تجريده من أهداف سياسية.
فبالنظر إلى توسيع دائرة صلاحية المحكمة الخاصة لتشمل أفعالاً جرمية عديدة ارتكبت وأفعالاً قد ترتكب في المستقبل اذا شاء أصحاب القرار، وبالنظر الى أن التنازل عن السيادة وممارسة الحق في تطبيق القانون بالنسبة إلى كل الجرائم التي ترتكب على أرض الوطن، يبدو أنه قد أصبح أمراً مقضياً، فإن الأمر الوحيد الذي يمكن التطلع إليه هو أن يكون القضاة القيّمون على هذه المحكمة على مستوى عال من المهنية والنزاهة والجرأة الأدبية للوقوف في وجه من في استطاعته أن يحوّل المحكمة الى أداة سياسية لتفاقم عدم الاستقرار السياسي والأمني في لبنان. جميع المراكز القضائية التي يلحظها مشروع نظام المحكمة الخاصة هي على درجة عالية من الأهمية وخاصة أنه ليس هناك أية هيئة قضائية أو ادارية يمكن مراجعتها في حال مخاصمة أحد القضاة أو موظفي المحكمة لأسباب إدارية أو مالية، إلا أن هناك قضاة ثلاثة يجب أن يلقى اختيارهم مقداراً كبيراً من الأهمية وهم المدعي العام والقاضي الدولي لمرحلة ما قبل المحاكمة ورئيس المحكمة.
فالمدعي العام يعـــــــــــيّنه الأمين العام للأمم المتحدة ويـــــــــــتمتع بصلاحيات واسعة ويسيطر على مجريات التحقيق والاتهام والــــــــــتوسع بها، وهـــــــــو يعمل بطريقة مستقلّة في المحـــــــكمة الخاصة. والقاضي غير اللبناني لمرحلة ما قبل المحاكمة هو كذلك معيّن من الأمين العام للأمم المتحدة وهو يتولّى تحضير الدعوى أو الدعاوى وصلاحياته تتجاوز تجميع المـــــــــلفات الى التدخل مباشرة في مجريات التحقيق والمحاكمة حتّى إنه قد يعيد النظر منفرداً في قانونية الأدلّة المتوافرة في التحقيقات القضائية اللبنانية أو تحقيقات لجنة التحقيق الدولية ويمكن أن يوجّه الدعوى كما يريد من دون شورى أو مراجعة. أمّا رئيس المحكمة فهو بالإضافة الى وظائفه القضائية كرئيس لغرفة الاستئناف في المحكمة، يمثّل المحكمة الخاصة ويكون مسؤولاً عن أدائها. وهو يرفع تقريراً سنوياً عن سير أعمال المحكمة الى الأمين العام للأمم المتحدة.
يكفي أن يوفق، مثلاً، أصحاب المآرب السياسية في إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بتعيين قاض واحد من هؤلاء الثلاثة من صنف السيد ديتليف ميليس، القاضي الأول للجنة التحقيق الدولية، لكي تصبح المحكمة الخاصة حلماً مزعجاً في ليل يعلم الله متى ينتهي وكم ستكون كلفته من عدم الاستقرار السياسي والأمني فضلاً عن كلفة مالية قد تفوق تصوّر الكثيرين.
* أستاذ القانون الدولي في جامعة جورجتاون