كانت الحياة السياسية السورية، البادئة منذ عام 1918، الأكثر توليداً عند العرب للمفكرين السياسيين: 1- الشيخ رشيد رضا، رئيس المؤتمر السوري الذي نصَّب في آذار 1920 الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية، وهو أستاذ أبو الأصولية الإخوانية حسن البنا، وأستاذ أبو السلفية محب الدين الخطيب، 2- ساطع الحصري، وزير التربية في حكومة الملك فيصل، وهو أبو الفكر القومي العربي في مرحلة ما بعد العثمانيين، 3- ميشال عفلق، 4- الشيخ مصطفى السباعي، 5- ياسين الحافظ.
كما أفرزت الحياة السياسية السورية شخصيات سياسية كانت تأثيراتها متخطية للحدود السورية: 1- سعد الله الجابري الذي كانت تأثيراته كبيرة في لبنان وبخاصة على رياض الصلح، 2- ميشال عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني حيث كان حزب البعث من دمشق يقود تنظيمات قطرية تمتد من الخليج إلى المحيط ومن دمشق إلى عدن، 3- خالد بكداش الذي كانت تأثيراته ممتدة إلى الشيوعيين العراقيين والأردنيين واللبنانيين، 4- ياسين الحافظ من خلال «حزب العمال الثوري العربي» الذي كانت تأثيراته ممتدة إلى العراق ولبنان منذ تأسيسه عام 1965.
بعد سقوط بغداد، أصبحت المراهنة على «رياح غربية ستهب على دمشق»
أيضاً، أفرزت الحياة السياسية السورية شخصيات كانت متميزة بمهاراتها السياسية بالقياس عربياً، سواء كانت في السلطة أو المعارضة: 1- خالد بكداش، 2- أكرم الحوراني، 3- رشدي الكيخيا، 4 - فارس الخوري، 5- صلاح جديد، 6- حافظ الأسد، 7- جمال الأتاسي، 8- يوسف الفيصل، 9- رياض الترك، 10- علي صدر الدين البيانوني. كذلك أفرزت الحياة السياسية السورية تأسيسات غير مسبوقة عربياً: 1- انفتاح عروبيين بعثيين على الماركسية من خلال تجربة «حزب العمال الثوري العربي» عام 1965، 2- انفتاح ناصري على الماركسية، مثل الدكتور جمال الأتاسي منذ عام 1968، 3- تجربة الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) منذ 1972 حيث مثَّلت أول تمرد شيوعي عربي على سلطة المركز السوفياتي، وأول محاولة لانفتاح شيوعي عربي على البيئة العروبية ــ السورية المحلية وعلى قضيتي «الوحدة العربية» و«فلسطين»، وأول تجربة حزبية يسارية سورية وعربية تعيد الانفتاح عبر وثائق مؤتمر الحزب الخامس في كانون أول 1978 على «مفهوم الديمقراطية» بمعناه البورجوازي بعد أن كان الجميع، من اليساريين الماركسيين والعروبيين، يسبحون في بحار «ديكتاتورية البروليتاريا» و«الديموقراطية الثورية» و«الديموقراطية الشعبية» لعقود خلت.
كانت المعارضة السورية التي تبلورت ضد السلطة منذ التدخل السوري العسكري في لبنان في حزيران 1976 حصيلة التقاء أحزاب مختلفة: الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي، حزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة الدكتور جمال الأتاسي، حركة الاشتراكيين العرب بزعامة أكرم الحوراني، حزب العمال الثوري العربي، حركة 23 شباط التي تابعت تجربة البعث بزعامة صلاح جديد بعد سقوط سلطتها يوم 16 تشرين ثاني 1970، حيث بدأ لقاء هذه الأحزاب والحركات الخمس منذ عام 1976 ثم تبلور في كانون أول 1979 عبر التوقيع على «ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي» قبل أن يصدر بيانه السياسي الأول يوم 18 آذار 1980. كان هذا اللقاء هو البلورة الكيانية والبرنامجية الأولى للمعارضة السورية لسلطة ما بعد 16 تشرين ثاني 1970. في شهر آب 1976 تشكلت «رابطة العمل الشيوعي في سورية» قبل أن تتحول في آب 1981 إلى «حزب العمل الشيوعي»، وقد مثلت تجربة متميزة عربياً، مثل تجربة «منظمة العمل الشيوعي» في لبنان و«الحزب الاشتراكي» اليمني، على تحول عروبيين باتجاه الماركسية أتوا من رحم «بعث 23 شباط» و«حركة القوميين العرب» و«حركة الاشتراكيين العرب». في صيف 1979 دخلت جماعة «الاخوان المسلمين» بفصائلها الثلاثة: «تنظيم الطليعة» الذي قام بمجزرة مدرسة المدفعية في حلب يوم 16 حزيران 1979، وهو متأثر بأفكار سيد قطب، و«التنظيم العام» الذي يتبع «مكتب الإرشاد العالمي» في القاهرة، و«تنظيم الطلائع الاسلامية» بزعامة عصام العطار، في صدام عسكري ــ سياسي مع السلطة، قبل أن تتوحد هذه الفصائل في كانون أول 1980 وتشكل «قيادة الوفاق».
في مرحلة المعارضة السورية لفترة حزيران 1976 ــ نهاية شباط 1982عند ما بدأ صيام المجتمع السوري عن السياسة لما قادت هزيمة «الاخوان المسلمين» العسكرية في حماة أمام السلطة إلى انتصار أمني للسلطة أتبعته (وسبقته بضربة خريف 1980 للحزب الشيوعي- المكتب السياسي) بضرب «حزب العمل الشيوعي» في آذار 1982 وصولاً إلى الضربة الكبرى لهذا الحزب في آب ــ أيلول 1987، وبضرب «بعث 23 شباط» في أيار 1982 - يلاحظ أن رسم السياسات عند المعارضين كان ينطلق من برامج ومن استراتيجيات وتكتيكات وأن الحركة العملية السياسية كانت تبنى من خلال هذه الأقانيم الثلاث وعبر قياس التوازنات والممكنات، وقد كانت تلك الأقانيم الثلاث تمسك مسطرة التوازنات والممكنات لقياس ارتفاعها أو نزولها كما جرى منذ نيسان - حزيران 1980 لما رأى الدكتور جمال الأتاسي، وأيضاً الدكتور أحمد فايز الفواز من قيادة الحزب الشيوعي- المكتب السياسي، بأن التوازنات قد بدأت تميل لمصلحة السلطة وأن من الضروري تخفيف النبرة المعارضة عند «التجمع» وتقديم تنازلات تكتيكية، مثل إدانة عنف «الاخوان» المسلح بدل تكتيك «السكوت عنه»، فيما كان رأي الأستاذ رياض الترك معاكساً لهما. في مرحلة ما بعد شباط 1982، مع الصيام السكوتي للمجتمع السوري عن السياسة مع انتصار السلطة الأمني على «الإخوان» وضربها لباقي فصائل المعارضة السورية، أصبحت المعارضة في وضعية «بقايا أحزاب» وقد أصبحت هي وقياداتها وكوادرها وأعضاؤها، سواء الملاحقون أمنياً أو السريون والمسجونون والمنفيون، في وضعية السمك خارج الماء. منذ كانون أول 1989 برزت أساليب جديدة عند المعارضين في «التجمع»، بتأثير الدكتور الأتاسي وقيادة ما بعد 5 أيلول 1987 للحزب الشيوعي- المكتب السياسي: طرح استراتيجية اصلاحية بدل الاستراتيجية التغييرية التي كانت مطروحة في ميثاق وبيان «التجمع». التكتيك هو الحفاظ على النفس وتفادي الضربات الأمنية ولو كان ذلك عبر تقديم بعض التنازلات، مثل تأييد «مؤتمر مدريد» في افتتاحية جريدة «الموقف الديمقراطي» للعدد 6 الصادر في أوائل تشرين ثاني 1991 ولو بصيغة متحفظة كان فيها انتقال أول عند المعارضة السورية من رفض «التسوية مع اسرائيل» إلى وضع آخر، حيث أن «النهج المعارض في هذه المرحلة والحساسة ينبغي أن يتقارب في جانبه السياسي ليتعامل أكثر مع معطيات الواقع... وأن لا يستند فقط إلى المبادئ والنظريات المجردة والمواقف السلبية الرافضة» (ص6). في المقابل بين شباط 1991 تاريخ أول عدد من «الموقف الديمقراطي» وحتى يوم وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10حزيران 2000 يلاحظ افتقاد الجريدة الناطقة للتجمع إلى سياسة المعارضة الجبهية للسلطة ومداراتها وابتعادها من المواقف الصدامية. كان رأي الدكتور الأتاسي، وفق رسالة بعثها في تموز 1993 لسجناء احزاب «التجمع» في القسم السياسي لسجن عدرة، أن يتم «تفادي الصدام. التركيز على فتح كوات في جدار القمع، والتخلي عن الاستراتيجية التغييرية لصالح استراتيجية اصلاحية».
كانت مرحلة ما بعد 10 حزيران 2000 جديدة عند المعارضة: لم يعد هناك بناء لبرامج واستراتيجيات وتكتيكات وقياسها بالتوازنات والممكنات كما في مرحلتي 1976-1982 و1989-2000، بل بناء السياسات من خلال «دلالة الآخر» عبر المراهنة عليه: المراهنة على «التيار الاصلاحي» في العهد الجديد. بعد سقوط بغداد يوم 9 نيسان 2003 التحول عند المراهنين أنفسهم تقريباً على «اصلاحيي العهد الجديد» إلى المراهنة على «رياح غربية ستهب على دمشق» مثل التي هبت على بغداد، وقد تبلور هذا أكثر بعد صدام واشنطن ودمشق في بلاد الأرز في ربيع 2005، وقد كانت ولادة «اعلان دمشق» في 16 تشرين أول 2005 محاولة لترجمة سورية لما فعلته جماعة 14 آذار في بيروت قبل أشهر من ذلك وبأن ما جرى في بيروت آنذاك سيكون له ترجمات في دمشق. لم تكن واشنطن كما أوضحت تصريحات أميركية تريد أكثر من «تغيير سياسات السلطة السورية» وبالذات في العراق وليس «تغيير النظام»، لذلك اصطدم «اعلان دمشق» بالحائط، ولكنه لم يتعلم شيئاً، لهذا رأيناه يستمر في سياسة «بناء السياسات بدلالة الآخر» نفسها، ولكن بالانتقال من موقع التشدد المعارض إلى الاعتدال كما حصل في بيان 5 أيلول 2008 المراهن على أن انفتاح ساركوزي على دمشق يمكن أن يخفف من الضغط على المعارضين السوريين أو أن يؤدي إلى «انفتاح داخلي»، وهو ما رأيناه أيضاً تجاه أوباما في تصريح لوكالة «رويترز» يوم 31 أيار 2009 من قبل الأستاذ رياض الترك لما رأى بأن «جهود الولايات المتحدة لتحسين الروابط مع دمشق ربما تخدم الاصلاح الديموقراطي».
وأظهرت مرحلة ما بعد 10 حزيران 2000 انخفاض مستوى نوعي عند المعارضة السورية: بعيداً عن بناء السياسة وفق منطق حرفة السياسة، حيث تبنى السياسات ببرنامجها واستراتيجيتها وتكتيكاتها من خلال التوازنات والممكنات وليس بأن ترسم السياسات من خلال ما «نقرأه عند الآخر» وأن تبنى رهانات تحدد الحركة والأهداف من خلال تلك القراءة التي غالباً ما تكون رغبوية وليست واقعية. أيضاً كان أحد علامات هذا الانخفاض في المستوى سرعة تحول يساريين ماركسيين وشيوعيين نحو «الليبرالية الجديدة» ليس عبر عملية فكرية يتم الانتقال عبرها من موقع فكري- سياسي إلى آخر وإنما من خلال خلع قميص واستبداله بآخر على عجل من خلال مراهنة على أن ما جرى في بغداد 9 نيسان 2003 ستكون له ترجمات في دمشق ليكون «الفكر» صدى للسياسة وليس العكس ومن دون أن يكون لهذا الفكر قوام نظري واضح المعالم والحدود.
يمكن تفسير انخفاض المستوى هذا ببعد المعارضة السورية من الماء الاجتماعي طوال ثمانية عشر عاماً منذ ما بعد شهر شباط 1982 وبالتالي عملياً من عدم وجودها الفعلي في ملعب السياسة ما جعلها مثل لاعب كرة القدم لما يفقد لياقته ومهاراته بحكم ابتعاده المديد من الملعب. كانت بعض علامات هذا الانخفاض قد ظهرت في التسعينيات ولكن لم يكن هذا مستفحلاً كما في العشرية الأولى من القرن الجديد. لوحظ أيضاً مع هذا الانخفاض، وبخاصة منذ عام 2004، ضعف الكثير من المعارضين أمام المال والعروض التي بدأ يقدمها الغرب الأوروبي- الأميركي، وقد كان هناك افساد غربي مقصود للمعارضين السوريين من أجل شراء «نخبة» تماماً كما جرى مع المعارضة العراقية في مرحلة ما بعد حرب 1991. وقد كان الكثير من المعارضين السوريين يبزون أشباههم العراقيين في القابلية للشراء وبأسعار أرخص.
عندما قام المجتمع السوري، معارضة وموالاة ومترددين، بكسر صيامه عن السياسة مع انفجار الأزمة السورية منذ درعا 18 آذار 2011 بعد صيام استغرق تسعاً وعشرين سنة، بان مقدار انخفاض مستوى المعارضة السورية، والتي كانت أسوأ معارضة من حيث مستوى الأداء والنتائج بالقياس إلى المعارضات في البلدان العربية الأربعة التي انفجرت بلدانها أيضاً في تلك الفترة: تونس ومصر واليمن وليبيا. كان هناك حراك عفوي حاول المعارضون ملاقاته. لم يضعوا له برنامج واستراتيجيات وتكتيكات وفق التوازنات والممكنات، بل قاموا بعزف معزوفة «الشعب يريد» وطبقوا مقولة «ما يطلبه الجمهور»، فيما كان الشعب السوري مقسوماً، وما زال بعد أربع سنوات، إلى ثلاثة أثلاث: موالاة ومعارضة ومترددون. لم يكن المعارضون القدماء في مقدمة الحراك بل فئة جديدة من الشباب بلا خبرة ولا معرفة بالسياسة، وقد فرضوا على المعارضين القدماء السير وراء شعاراتهم، وقد رأى الأخيرون أن لا مناص لهم من ذلك، واقتصر دورهم على قولبة هذه الشعارات وتحويلها إلى بيانات ولم تصل إلى مستوى البرنامج والاستراتيجيات والتكتيكات ومن ثم قياسها بالتوازنات والممكنات. رأينا القفزات خلال ستة أشهر وراء «الحراك» من مطالب «اصلاحية» إلى «تغييرية» ثم إلى شعار «اسقاط النظام». وعندما بان العجز عن ذلك كان أغلب المعارضين محبذين لـ «خيار العنف المعارض» ثم «طلب التدخل العسكري الخارجي». لم يستغرق المرور بهذه القفزات الخمس أكثر من تسعة أشهر فاصلة بين درعا ونهاية عام 2011. وقد كان «المجلس الوطني السوري»، المعلن تشكيله يوم 2 تشرين أول 2011 بمكوناته من «الاخوان المسلمون» و»اعلان دمشق» و»شباب الحراك»، تجسيداً لهذه القفزات الخمس قبل ولادته وبعدها. كانت «هيئة التنسيق»، المؤسسة منذ 25 حزيران 2011 والتي طرحت «التسوية التاريخية» واللاءات الثلاث للتدخل الخارجي وللعنف وللطائفية، معزولة وضعيفة شعبياً، ولم ترفع رأسها إلا منذ عام 2014 لما ارتطم المعارضون الآخرون بحائط الفشل وكانت حصيلتهم صفرية وكارثية.
يمكن لمقولة «السمك خارج الماء» أن تفسر ضعف الأداء بعد عودة السمك إليه إثر غياب استغرق تسعة وعشرين عاماً، ولكن الماء كان قد تغير ولم يعد كالسابق، كما أن السمك القديم كان قد شاخ وترهل. الأرجح أن مقولة «ابتعاد اللاعب عن الملاعب»، وفقدان اللياقة التي بانت عند النزول للملعب بعد غياب طويل، يمكن أن تكمل تلك المقولة. إذا وضعت هاتين المقولتين، مع تعقيدات الأزمة السورية التي كانت التكثيف الأبرز للصراع الدولي - الاقليمي في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1989 من أية أزمة أخرى، وارتهان الكثير من المعارضين السوريين للخارج الدولي والاقليمي، فمن الممكن الوصول إلى مقاربة أكثر للإجابة على سؤال: «لماذا الانخفاض في مستوى المعارضة السورية؟».
* كاتب سوري