تُشكل السياسات الضريبية جانباً مهماً من تجليات النمط الاقتصادي المهيمن، لذلك فإن دراستها تستوجب تحديد العلاقة العضوية التي تربطها ببنية الدولة والنمط الاقتصادي السائد. فالسياسات الضريبية في سوريا أصبحت تُعبّر بشكل واضح عن سياسات اقتصادية تحريرية. ويتجلى ذلك من خلال زيادة المطارح الضريبية على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود والمنتجين الصغار من زراعيين وصناعيين. أما كبار التجار والمستثمرين وأصحاب الرساميل، فإنهم يساهمون في صياغة السياسات الاقتصادية، ولهم من السياسيين في دوائر صناعة القرار من يمثل مصالحهم ويدافع عنها.
وليس هذا وحسب، بل إن طبيعة علاقاتهم مع الطبقة السياسية المتنفذة تسمح لهم بفرض السياسات الاقتصادية المالية والنقدية التي تلبي مصالحهم. وفي ضوء ذلك فإنهم يُعتبرون من أكثر المستفيدين من النظام الضريبي المعمول به، ومن التخفيضات والإعفاءات الضريبية. ومع ذلك فإنهم يتهربون من دفع الضرائب، ومن الإيفاء بحقوق العمال مثل تعويض نهاية الخدمة، وتسجيل العمال في مؤسسة التأمينات، والتزام الحد الأدنى للأجور، والترفيعات الدورية والزيادات التي تقرها الحكومة، وتعويض العمال عن أيام العطل الرسمية والأعياد والإجازات المرضية، والطبابة.
القطاع الخاص يسيطر
على 65% من الصناعة و75% من النشاط التجاري
وإضافة إلى كل ذلك فإنهم يُجبرون العمال قبل مباشرتهم العمل على توقيع عقد «الذل». أما لمن لم يسمع بهذا العقد نقول: إنه إقرار يُجبر العامل على توقيعه تحت ضغط الحاجة إلى العمل. وفيه يُقر بأنه قبض مستحقاته المالية كافة. وبموجب هذا العقد يستطيع رب العمل طرد العامل من عمله لأي سبب، وفي أي وقت من دون أن يدفع له أي تعويض. وبغض النظر عما ذكرنا، فإن النظام الضريبي المعمول به يستدعي المطالبة بوضع سياسات ضريبية عادلة تخفف من معاناة المواطن بشكل عام، مع مراعاة التركيز على العاملين في القطاع الخاص. وتشير التقديرات إلى أن نسبة الضرائب من الموازنة، كانت قبل الأزمة تُشكّل حوالى 52%. ومن المتوقع أن هذه النسبة قد ارتفعت خلال سنوات الأزمة، بسبب تراجع معدلات الإنتاج السلعي والنفطي وانخفاض عوائد السياحة إلى الصفر. ولهذا دور كبير في تراجع واردات الخزينة. إضافة إلى ذلك، فإن سيطرة المجموعات المسلحة على الموارد النفطية والصناعية والزراعية، تنبئ بانهيار الأوضاع الاجتماعية.
وفي ظل سيطرة التجار والمستثمرين على مفاصل صناعة القرار الاقتصادي، فإن الحديث عن سياسات ضريبية تُحقق العدالة الاجتماعية تتخلله إشكاليات متعددة، تحديداً في ظل غياب نقابات مستقلة وأحزاب سياسية تمثل أوسع الشرائح الاجتماعية وأكثرها فقراً. وتزداد أوضاع المواطنين سوءاً عندما تتحول الدولة إلى تاجر فاشل. فذلك يُنذر بانهيار المنظومة الحقوقية للمواطن. لكن في ظل التحول إلى الاقتصاد الحر، فإن الحفاظ على الدور الاجتماعي للدولة تكتنفه إشكاليات فكرية وسياسية وحتى اقتصادية مختلفة. ونقاش ذلك يجب أن ينطلق من تحليل بنية الدولة وميولها العامة. وعليه، فإن تجاوز القضايا الجزئية وإشكالاتها يستوجب تحديده في سياق الكل، أي بنية الدولة. وهنا بالضبط يجب الاشتغال على طرح مشروع كلي يناقش الجزئيات في سياقها العام. والتركيز على بحث كيفية بناء دولة تقوم على معايير المواطنة والحقوق المتساوية والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية المنفتحة على آفاق ديمقراطية سياسية واجتماعية، يتم فيها القطع مع السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية. ذلك لأن سياسات التحرير الاقتصادي تُعبّر عن مصالح كبار التجار والمستثمرين. وهؤلاء يعملون على تحجيم دور الدولة الاجتماعي، والتمسك بها كمدافع عن مصالحهم وامتيازاتهم الاقتصادية. وهذا يعني إنه في ظل تحرير الاقتصاد، يصبح الاشتغال على وضع سياسات ضريبية تحقق هامشاً من العدالة الاجتماعية أمر صعب التحقيق، كونها تتناقض مع بنية الاقتصاد المسيطر، ولا توجد لها حوامل سياسية واجتماعية قادرة على ذلك، ولهذا أسباب متعددة ومختلفة. فمن يساهم بشكل واضح في وضع السياسات الاقتصادية التجار والمستثمرون، ومصالح هؤلاء تتناقض مع مصالح الفقراء والمهمّشين. وكما هو معلوم فإن المتحكمين بمفاصل الاقتصاد الحر يشتغلون على تحقيق أعلى معدل من الأرباح، وذلك لن يكون إلا من خلال استغلال العمال.
وفي اللحظة التي يتدهور فيها المستوى المعيشي لغالبية السوريين، نرى أن المطارح والسياسات الضريبية تستهدف الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً. وهؤلاء باتوا يشكلون نسبة تتجاوز 90% من المجتمع السوري. فالصراع الدموي أثقل كاهلهم ووضعهم على حافة الانهيار، حتى باتوا عاجزين عن تأمين قوتهم اليومي. هذا في وقت تتم فيه محاباة كبار التجار والمستثمرين وأصحاب الرساميل المالية والريعية. ويتجلى ذلك من خلال تخفيض المعدلات الضريبية واللجوء إلى الإعفاءات المتكررة، وذلك بذريعة الحد من التهرب الضريبي. لكن ذلك لم يخفف من التهرب الضريبي، إضافة إلى أن التجار والمستثمرين يوظفون الأوضاع الراهنة في مضاعفة ميولهم الاحتكارية وتحكّمهم بمعيشة وحياة السوريين.
إضافة إلى ذلك، فإن ثمة تناقضاً واضحاً بين ما ينفذ على أرض الواقع، من سياسات اقتصادية وضريبية تحابي مصالح المستفيدين والمتحكمين بالمفاصل الاقتصادية. وتصريحات حكومية يدّعي أصحابها تمسّكهم بمصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمّشة. لكن من الواضح أن نتائج التحولات الاقتصادية على المستوى الاجتماعي تدل على تسارع وتيرة تآكل مصالح الشرائح والفئات الاجتماعية الفقيرة والمفقرة. فالسياسات الاقتصادية في السنوات الأخيرة تندرج في إطار سياسات اقتصادية مالية ونقدية تهدف في سياق تمكين الاقتصاد الحر إلى إعادة هيكلة البنى الاقتصادية وفق أشكال تُعبّر عن سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهذه السياسات تُعبّر عن مصالح المستثمرين الأجانب والمحليين الذين لا يفكرون إلا في زيادة معدل الربح. وفي الوقت الذي كانت فيه نسبة ملكية القطاع العام لا تتجاوز 35% من حجم الناتج الإجمالي المحلي، فإن حجم مشاركة القطاع الخاص ورجال المال والأعمال في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة قفزت من 64,4% عام 2005 إلى 70% عام 2007، وأصبحوا يسيطرون على 65% من الصناعة (عدا الصناعة الاستخراجية) و75% من النشاط التجاري. وتزامن ذلك مع تخفيض التكليف الضريبي للقطاع الخاص من 60% إلى 28%. هذا في وقت لم يتجاوز فيه معدل التحصيل الضريبي 20% من قيمته الحقيقية. من جانب آخر، فإن ارتفاع نسبة مشاركة «كبار التجار والمستثمرين» اقترنت بزيادة مشاركتهم في وضع السياسات الاقتصادية، وفي فرض المعدلات والمطارح الضريبية التي تُحقق مصالحهم الخاصة.
أخيراً نؤكد ضرورة إعادة دراسة النظام الضريبي وذلك لأسباب عدة منها: تخفيض المعدلات الضريبية عن الاستثمارات الوطنية التنموية ـ فرض ضريبة تصاعدية على أرباح التجار وعلى حركة رأس المال وتبادل العملات ـ مكافحة التهرب الضريبي ـ تخفيض الضرائب المباشرة وغير المباشرة عن المنتجين الصغار والفقراء وأصحاب الدخل المحدود ـ تحفيز الاستثمارات الوطنية التي تساهم في التنمية البشرية والاقتصادية. ونشدد أخيراً على ضرورة إدراج النقاط المذكورة في سياق القطع مع السياسات النيو ليبرالية.
* كاتب وباحث سوري