لا يضير الأرمن، وان كان قد يؤلمهم، أن ينكر بعضنا حدوث الابادة الأرمنية، بل وأن يتّخذ، في يوم المناسبة تحديداً، موقفاً محتفياً بالدولة التركية في وجه الضحايا وأحفادهم. هذا ليس فقط لأن السجل التاريخي واضح ومدوّن، وقد صارت هناك العديد من الكتب والأبحاث التي توثّق أحداث الابادة، وتدرس الاطار التاريخي الذي جرت فيه، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي سبقتها في الاناضول والسلطنة (وقد أتيح لي العمل مع البروفسور ستيفان استوريان، الذي أصدر كتابات مهمة في تفسير الابادة وسياقها).
نكران الابادة لا يضير لأن الأرمن قد خلّدوا ذكراها وجعلوها ركناً مؤسساً في هويتهم القوميّة والفردية. يكفي، كما لاحظ أحد العارفين، أن نراقب سلوك الأرمن تجاه الدولة التركية، بعد مئة عامٍ من الواقعة، ورفضهم التامّ لأي تطبيع أو تسامح مع المؤسسة التركية. بل انه يصعب أن تجد أرمنياً ــــ صغيراً أم كبيراً، في حلب أم في كاليفورنيا ــــ لا يعتبر ذكرى الابادة واجباً شخصياً عليه، أو يأخذ موقفاً متساهلاً أو غير مكترثٍ تجاهها، باعتبار مرور الزمن وتعاقب الأجيال. ولا ضرورة هنا لعقد مقارنة مؤلمة بين هذه الذاكرة القومية وبين سلوك العرب تجاه من هجّرهم وقتلهم واعتدى عليهم.
الّا أن المواقف التي أُطلقت في لبنان منكرة تهجير الأرمن وابادتهم تعكس ايضاً السلوك المتغيّر للعرب تجاه الإرث العثماني وعلاقتنا به. يوجد اليوم خطابان، متنافران بالكامل، حول تقييم «الدولة العليّة» وآثار حكمها في بلادنا. الأوّل،وهو من صياغة الدول والنخب الوطنية التي صعدت مع سقوط السلطنة، يجوز أن ندعوه «خطاب الانحدار»؛ وهو يعتبر أنّ التاريخ العثماني الطويل يمكن اجماله كمرحلة انحطاط مديدة، و»احتلال» تركي للعرب، ودولة قاسية متخلّفة، مثّلت استعماراً «تركياً» قبل حلول الاستعمار الغربي.
الّا أنّه، وفي وجه هذه السردية، صعدت منذ السبعينيات، باضطراد، وخاصة في صفوف الاسلاميين، نظرية معاكسة ترى الحكم العثماني البائد «عصراً ذهبياً»، جمع المسلمين تحت راية دولة امبراطورية؛ وأنّ تشرذم المسلمين وتخلّفهم، ووقوعهم في براثن الاستعمار، كان نتيجة مباشرة لسقوط الخلافة.
الحكم التاريخي الموضوعي لا يتّفق، بالطبع، مع هذه الرؤى القاطعة وسرديات الوطنية والهوية (لا يمكنك أن تطلق حكماً اجمالياً تعميمياً على فترة تزيد على الأربعة قرون)؛ الّا أن تبدّل النظرة، ايجاباً وسلباً، يعكس نظرتنا الى أنفسنا وتاريخنا وهويتنا، وليس نتيجة اكتشافات جديدة في التأريخ العثماني.
لا يضير الأرمن أن تنكر مأساتهم، والشعب الذي يملك أقدم كنيسة «قومية» في العالم، وهوية وثقافة راسخة، لا يحتاج الى تصديق الغير على تاريخه. ولكن من المفيد للعربي، الذي يعتبر أن تماهيه مع الأتراك يمرّ عبر اهانة الأرمن، أن يتذكر أن الخسارة الكبرى للشعب الأرمني في المذبحة لم تكن في ابادة قسمٍ كبير منه فحسب، بل تمثّلت ايضاً بخسارته لأرضه التاريخية، في الأناضول، حيث عاش الترك والكرد والأرمن سوية لأكثر من ألف سنة قبل حلول التطهير العرقي. لربّما ساعتها ينتبه من يتحسّر على ضياع فلسطين، ويرنو الى أرضه السليبة، الى ما بينه وبين الأرمني من تشابه، فيخجل قليلاً.