لقد نجح الشعب الأرمني في إحياء الذكرى المئوية الأولى للمجازر التي تعرّض لها شعبه في عام 1915 من قبل السلطنة العثمانية. ففي يريفان أعطى حضور الرئيسين الفرنسي فرنسوا هولاند والروسي فلاديمير بوتين بعداً عالمياً للاحتفال. وفي دول الانتشار نجحت الجاليات في تنظيم المسيرات الشعبية الحاشدة المنظمة والسلمية، وكان أبرزها في لبنان. كيف لا والشعب الأرمني منخرط في الحياة السياسية، وهو جزء من التركيبة السياسية اللبنانية. كذلك تضمن له «الديموقراطية» اللبنانية منذ لجوئه، ولو بالحد الأدنى، حرية التجمّع والنضال والتظاهر. مشهد المسنين في المسيرة التي انطلقت من أنطلياس حتى ملعب برج حمود أكّد عدم تعب الشعب الأرمني من المطالبة بحقّه. وحماسة الشباب والأطفال تدلّ على أن الأجيال القادمة ستستمر في النضال.
هذا النضال بدأ غداة المجازر. ففي عام 1921 اغتال شبان أرمن طلعت باشا (وزير الداخلية العثماني الذي أصدر الأوامر بإنهاء الوجود الأرمني على الأراضي التركية) في العاصمة الألمانية برلين حيث كان لاجئاً سياسياً. ومنذ الثمانينيات من القرن العشرين كثّف الأرمن، بخاصة أبناء الجاليات في بلدان الانتشار، نشاطهم السياسي للحصول على اعتراف العالم بأن ما تعرّض له آباؤهم وأجدادهم هو «إبادة». فقد أجرت الكنيسة الأرمنية تحقيقات حول المجازر.
تعامل ارمينيا مع القضية هو السبب في بطء اعتراف المجتمع الدولي بالمجازر
وقام شبّان من الجيل الثالث بمهاجمة المصالح التركية في العالم. كذلك عمد بعض الفنانين والكتاب إلى إنتاج الأفلام والوثائقيات وطباعة كتب حول هذه القضية. فكان لهذه الأعمال تأثيرها في الرأي العام العالمي. وآتت بعض الثمار. عام 1987 صوّت البرلمان الأوروبي على قانون يشير إلى «الإبادة» التي تعرّض لها الشعب الأرمني في عام 1915. وكذلك فعل المجلس الأوروبي عام 1998. كذلك اعترفت بعض الدول بما تعرّض له الأرمن في عام 1915، كان أوّلها الأوروغواي في عام 1965 وآخرها سوريا وألمانيا والنمسا في عام 2015.
هذا التقدّم في القضية الارمنية اتى متأخراً وبطيئاً وذلك لأسباب سياسية نشأت بعد الحرب العالمية الاولى وخلال الحرب الباردة، ما هي؟ بعد سقوط الامبراطورية العثمانية تأسّست الجمهورية التركية القوية بقيادة مصطفى كمال اتاتورك. مع وصول هتلر الى الحكم في المانيا وظهور بوادر حرب جديدة في العالم كان من مصلحة الدول الاوروبية العظمى، وبخاصة فرنسا، استقطاب تركيا الى جانبها او على الاقل تحييدها عن الصراع المقبل. اذ كانت تخشى استعادة العلاقات الجيدة بين تركيا والمانيا كما كانت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولضمان الموقف التركي تنازلت فرنسا عن خليج الاسكندرون وأصبح جزءاً من الاراضي التركية. في مثل هذه الظروف لم يكن من مصلحة فرنسا ولا أي دولة أخرى اثارة موضوع المجازر الأرمنية.
مع بدء الحرب الباردة زادت حاجة الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الاميركية، الى تركيا. فهي ذات موقع جيو-استراتيجي لمنع وصول الاتحاد السوفياتي الى البحر المتوسط. وبالتالي لا مصلحة لواشنطن، في مناصرة القضية الارمنية ضد أنقرة. لذلك لا يشير البيت الابيض الى «الابادة» الارمنية حفاظاً على مصالحه مع تركيا الشريك الاساسي في حلف الناتو والتي تبقى حليفاً اساسياً في المنطقة رغم التوترات التي اصابت العلاقة معها منذ اجتياح العراق عام 2003. تعامل دولة ارمينيا في الماضي مع القضية هو ايضاً سبب في بطء اعتراف المجتمع الدولي بالمجازر. فالدولة التي قامت بعد سقوط السلطنة العثمانية، والتي من المفترض ان تناضل من اجل قضية شعبها في المحافل الدولية فسرعان ما اصبحت جزءاً من الاتحاد السوفياتي (عام 1921). وفقدت استقلالها وسيادتها وسياستها المستقلّة. وغرقت المجازر في بحر النسيان حتى عام 1965. فبعد مرور خمسين سنة على «الابادة» احيت يريفان للمرّة الاولى الذكرى، وشيّدت بعد سنتين نصباً للشهداء الذين سقطوا فيها.
ولكن ما هو موقف تركيا من هذه المجازر؟ وما هي قراءتها للاحداث التي رافقتها؟
تعترف تركيا بـ «الأرمن العثمانيين الذين فقدوا حياتهم خلال فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية». بالنسبة لها، سقط هؤلاء إبان حرب كانت تهدّد أسس السلطنة. فبريطانيا وفرنسا كانتا تتقدمان باتجاه مضيقي البوسفور والدردنيل، والجيش الروسي كان يشكّل خطراً على مناطق جنوب تركيا الحالية. وقد ارادت انقرة تذكير العالم بظروف تلك المجازر من خلال إحياء ذكرى معركة الدردنيل في يوم ذكرى المجازر نفسه.
ولكن ما كانت علاقة الارمن بكل ذلك؟ هؤلاء كانوا مواطنين في السلطنة العثمانية وعلى علاقة وثيقة بالامبراطورية الروسية بحكم الجغرافيا والدين (الارثوذكسية)، فاتهمهم الباب العالي بالخيانة وأمر بإنهاء وجودهم عن الاراضي التركية. وما زاد من فظاعة الامر التوجّهات الاصولية الدينية الاسلامية التي كانت مسيطرة آنذاك في الامبراطورية العثمانية وحركة التتريك التي قادتها «تركيا الفتاة» الحاكمة. لذلك لم يقتصر الامر على الارمن إنما طال القتل والتهجير والتشريد السريان والاشوريين واليونانيين.
اليوم وبعد مئة عام على هذه الاحداث المأساوية، لا تزال طريق الشعب الارمني طويلة لإحقاق «العدالة لقضية حق...» (شعار رفعته الجالية الارمنية في لبنان). فتركيا دولة كبرى في المنطقة، ومصالح الدول الكبرى معها اكبر وأهم من مصالح انتخابية مع الجاليات الارمنية هنا او هناك. وكذلك مصالح دولتهم ارمينيا. فهذه الاخيرة دولة مغلقة (لا منفذ بحرياً لها) ومطوّقة شرقاً بأذربيجان المتصارعة معها على اقليم كاراباخ، وغرباً بتركيا. في السنوات الاخيرة بادرت تركيا الى الانفتاح عليها، لكن ضغوطات الجاليات الارمنية شكّلت عائقاً.
لا شك في أن احتفالات مئوية المجازر الأرمنية وتصريحات بعض رؤساء الدول والشخصيات العالمية، كان أبرزهم قداسة البابا فرنسيس، كانت خطوة إلى الأمام. وقد أغضبت تركيا. وظهر ذلك في ردود أردوغان العنيفة (على البابا وفلاديمير بوتين) والمستهترة (تجاه قرار الاتحاد الأوروبي). أما رئيس وزرائه دواد أوغلو، فدعا إلى «التطلّع إلى المستقبل». ولكن هل يمكن ذلك دون تنقية الذاكرة التاريخية ودمل الجراح؟ التحقيق التاريخي المشترك حول المجازر وظروفها، الذي تدعو إليه تركيا، بإمكانه أن يكون مدخلاً للحوار حول هذه القضية لطيّ صفحة أليمة في التاريخ الحديث. لكن المواقف بين يريفان وأنقرة لا تزال متباعدة، خاصة في ظل إدارة حزب العدالة والتنمية الإسلامي المتشدّد. كذلك إن المصالح السياسية، الأوروبية والشرق أوسطية، تحكم تعامل الدول مع هذه القضية الإنسانية. وبالتالي إن إحقاق «العدالة للمليون ونصف المليون» لا يبدو قريباً. فهل يستغرق مئة عام أخرى؟!
* أستاذ جامعي