احتلت البلاد العصاباتُ الصهيونيةِ في مطلع عام 1948، فتشتت الفلسطينيون في الوطن العربي، أما من تبقي في البلاد، بعد النكبة، فقد فرضت عليه بطاقة الهُوية الإسرائيلية ولحقها حكم عسكري مدة 17 عاماً. في بداية الستينيات، استغل رأس المال الصهيوني العُمال العرب كقوى عاملة باخسة، لم يكن باليد حيلة لأن الحركة الصهيونية سيطرت على كل مناحي الحياة في البلاد وعلى مواردها المادية والبشرية، ما حدا بالفلسطينيين إلى التسليم بأن لا مناص من هذا الواقع، إلا عبر مواجهته المباشرة من خلال التعليم. ومنذ حينه، صوّر أجدادنا القلم والدفتر والجامعة، صورة البندقية التي لمْ يستطيعوا حملها في وجه الاحتلال. «تعلّم يا سيدي ما راح ينفع مع هيك دولة غير التعليم»، هكذا كان يقول لي جدّي الذي كان فلاحاً يزرع أرضنا في جت. سارعت الحركات الصهيونية بمساعدة الاستعمار البريطاني إلى بناء الجامعات في ربيع عشرينيات القرن الماضي، انتهت من بناء الجامعة العبرية في عام 1926 في القدس المحتلة، ومن معهد «التخنيون» عام 1926 في حيفا، ومنعت في الوقت عينه وما زالت، بناء أية جامعة عربية فلسطينية تُدرس باللغة العربية.

الأمر الذي اضطر العرب الفلسطينيين، منذ النكبة حتّى اليوم، إلى اختيار الأكاديمية الإسرائيلية، أو جامعات الضفة الغربية أو التغرب عن الوطن والسفر للتعلم في الخارج، حيث يواجه الطلبة العديد من المصاعب المادية ثم العودة إلى البلاد ومحاولة الاندماج في سوق العمل الاسرائيلي.

القامعة العبرية

في النظام الاستعماري لا فصل بين يمين أو يسار كما لا فصل بين محاضر «يساري» مختص في القانون الدولي في الجامعة العبرية، وزميلك الطالب في موضوع الفلسفة الجندي في وحدة الاستخبارات العسكرية. إذ أن طرفي القضية لا يختلفان في العناوين الرئيسة كذلك لا يقلصانها بل يتكاملان معها تكاملاً كلياً. ولأن الجامعة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشروع الصهيوني يصير التعليم تعليماً ايديولوجياً محضاً موجهاً من المؤسسة الحاكمة وراعياً لإنتاج العقول وتصنيعها كما تُصَّنع المنتجات الاستهلاكية الأخرى. كل شيء إسرائيلي في «إسرائيل»، استمرارية للصهيونية، وبهذا لا تختلف الجامعة كمؤسسة أكاديمية عن أقبية التحقيق لدى جهاز المخابرات وهي لا تختلف عن «دائرة أراضي إسرائيل» في سلب الأرض والمسكن.
يدرس في الجامعة العبرية في القدس المحتلة المقامة على أراضي قرية لفتا المهجرة، طلاب فلسطينيون من القدس والداخل، إلى جانب طلاب صهاينة، مواضيع مختلفة في كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الدقيقة والقانون ومواضيع اخرى. داخل أقبية هذه المؤسسة المرعبة لا يتكيف الطالب الفلسطيني بسهولة، في مساحة تسعى لتغريبه عن واقعه ومحيطه مع التناقضات التي من الممكن أن تؤثر فيه، وتزعزع هويته الثقافية والوطنية. فبمجرد دخولك الجامعة تلتقي ضباط الأمن التابعين لشركة حماية إسرائيلية، معظمهم كانوا قد انهوا خدمتهم في جيش الاحتلال، ويعملون في شركات الأمن والحماية وقد تضطر أن تُصَبِّحَ عليهم وباللغة التي يفهمونها (بوكر طوف_ صباح الخير). تصل إلى قاعة المحاضرات، تجلس بين زملائك عن يسارك جندي صهيوني ببزته العسكرية وبندقيته المتدلية على خاصرته، وعن يمينك طالب من مستوطنة «بيسجات زئيف»، المقامة على أراضي قرية حزما، ربما كان شريكاً مع قطعان اليمين في تدنيس مقدساتك. تخرج من محاضرتك قاصداً المكتبة العامة لتبحث عن «النبي» أو «تهافت التهافت»، يستوقفك كتاب مطبوع في إحدى دور النشر المصرية عليه إهداء من جبران إلى أحد المقدسيين. ترفع رأسك، ثم تنظر حولك إلى الكتب المصفوفة والمرتبة في كل الاتجاهات وتدرك أنك تقف في وسط أضخم عملية سطو في التاريخ، لتدرك أنه لا خارج أقبية الجامعة فقط لا بد من حدث يذكرك بالفاجعة، بل هنا، وفي كل مكان تسير فيه على مهلٍ بإمكانك الانتباه إلى تفاصيل الوجود المشوه وهويتك وذاكرتك المسلوبتين في كل الاتجاهات.
نحن في دولة ديمقراطية، هذا كذب! ولأن الجامعة هي ذراع من أذرع الاحتلال فإنها تتعاون بشكل واضح وعلني مع المخابرات والشرطة، وعند أي نشاط طلابي وطني، تقوم الجامعة بتسليم عناوين سكن ناشطي الحركة الطلابيّة لأجهزة الأمن، لتحضر الأخيرة مدججة بالسلاح تعتقل الطلاب من كل حدب وصوب، وهذا ما كانوا يفعلونه معنا بعد كل نشاط لا سيما في حرب غزة الأخيرة. وما لا يستطيع فعله جهاز المخابرات، لا تقصر في عمله إدارة الجامعة من خلال جلسات لجان الطاعة والتهديد بالفصل. يمكن اعتبار لجان الطاعة كأي تحقيق في الشاباك او الشرطة. تتم مساءلة الطلاب على توزيعهم مناشير سياسية، على مشاركتهم في تظاهرات رفع شعارات او على اية قضية تافهة قد يلفقونها بأنفسهم. ولجان الطاعة هي التهديد الاكبر الذي تستخدمه الاكاديمية الاسرائيلية لتخويف الطلاب العرب وعزلهم عن العمل السياسي. خلال جلسات «التبرير» او «الطاعة» قد يُهدد الطالب الممثل عن احدى الخلايا العربية بشطب الخلية التي ينتمي اليها او منعها من العمل لفترة معينة. «وهذا ما حصل معي عندما تم استدعائي للمثول أمام لجنة الطاعة بصفتي رئيسة خلية»، تقول الطالبة حلا مرشود (طالبة لغة انكليزية وتربية، من مدينة حيفا) وقد استُدعيت إثر التظاهرات التي قامت بها الحركة الطلابية في حرب غزة الأخيرة، والتضامن مع الأسرى وضد مخطط برافر وهدم البيوت. وتضيف: «لم تُدعى اية خلية سياسية صهيونية للجنة طاعة، حتى في الحالات التي يتم فيها توزيع مناشير او القيام بتظاهرات داخل الحرم».
وحين نتحدث عن حرية المعرفة، فإن لا معرفة إلا تلك التي تريدك الجامعة إدراكها من خلال مضامين استشراقية، ففي الجامعة لن تعرف من هو ابن رشد ولا الفارابي، ولن يحدثك أحد عن إدوارد سعيد، ومن يكون ابن الكندي... لن تعرف أبعد من باروخ سبينوزا، وديفيد يوم، وبيركلي، هؤلاء هم من يُراد لنا أن ندرسهم، ولا فرق عند أحد إن كانت هذه خيانة أكاديمية وعلمية تاريخية!

الطلاب العرب والأحداث الأخيرة في القدس

«إبن عمي خطفووووه... بحكيلكم خطفوووه»، استقيظ طلاب الجامعة العبرية صباح الثاني من تموز صيف 2014 على خبر اختطاف الفتى محمد أبو خضير على يد ثلاثة مستوطنين. أخبرتنا ذلك الطالبة ثورة أبو خضير ابنة عمه. حالة من الذعر دبت في مساكن الطلبة العرب. كان ذلك منتصف فترة الامتحانات النهائية، أغلق الطلاب كتبهم، تركوا امتحاناتهم وتسمروا أمام شاشات التلفزة. سرعان ما تحولت القدس إلى قنبلة غضب عنقودية تنفجر في كل مكان. في محاذاة الجامعة تقع قرية العيساوية أو «غزّة الصغرى» كما يسميها رجال الشرطة وحي الطور ووادي الجوز، فجأة سمعنا أصوات قنابل الصوت تندفع لتفريق المواجهات التي دارت بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال تدوي من كل ناح، تلحقها أصوات انفجارات. وفي طقس بلا رياح كان يمكننا أن نشم رائحة الغاز المسيل للدموع ورائحة المياه العادمة الكريهة الخارجة من العيساوية.
غالبية الطلاب لم تتقدم لإجراء امتحاناتها، بل لازمت شعفاط طوال فترة المواجهات، منهم من كان مضمداً للإصابات مع الهلال الأحمر الفلسطيني، ومنهم من كان يساعد في التغطية الصحافية ونشر الاخبار، وآخرون تفرغوا لمتابعة مستجدات المعتقلين. لا يمكننا نسيان تلك الليلة التي خرجنا فيها قرابة الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، إلى مسشتفى المقاصد في الطور، للتبرع بالدم من أجل المصابين. العشرات لبوا النداء وخرجوا. هذه هي الحاضنة الشعبية المطلوبة، هذا هو دور الطلاب الفلسطينيين الذين يرفضون التغيب عن واقعهم ويرفضون التصرف كما تريد لهم المؤسسة الأكاديمية أن يفعلوا، أن يأتو إلى الجامعات ويُحَصِّلوا الشهادات ثم يعودوا ليعلقوها على جدران بيوتهم.
* طالب علوم سياسية وفلسفة ــ فلسطين