نجيب نصر الله *
نستطيع القول إن في لبنان تتقدم الأعراف على القوانين. حديث «القوانين»، إن وُجد، وهذا أمر مستبعد، أو ممنوع، لا يعدو أن يكون من باب توكيد سيادة الأعراف. الوقوف العابر عند عناوين السياسات التي اتُّبعت خلال السنوات 15 الأخيرة تساعد في الإضاءة على هذه الحقيقة.
وإذا احتاج الأمر، يمكن إيراد الكثير من الأمثلة التي يتيح إيراد بعضها لا كلها، توجيه الاتهامات وإقامة الإدانة، بما يكفل، وهذا شبه مؤكد، «القضاء» التام والمبرم على أكثرية وجوه ورموز الطبقة السياسية المتصدرة للمشهد العام.
وقد يصل الأمر الى حد مفاقمة الاكتظاظ غير الإنساني الذي تعانيه السجون، وخصوصاً إذا ما شُمل أولئك الذين كانوا يشكلون دعائم الزمن البعثي الآفل، مع التشديد على حقيقة أن معهم، لا عبرهم، جرت فصول التصفية الأساسية وشبه النهائية لمشروع الدولة ومفاهيمها، فاستُبيحت البلاد طولاً وعرضاً، من أقصى الشمال الى أقصى أقاصي الجنوب. وحين تبدلت الأحوال، ولم يكن هناك بداً من تبدلها، على ما تشرح مقدمة «ابن خلدون»، سارعوا إلى استئناف سيرتهم الأولى، سيرة الانقلاب وتغيير الولاء، فكان الانقلاب على من كان له الفضل الأول والأخير في اختراعهم نواباً ووزراء، أو رجال مال وأعمال.
التقدم الحاسم للأعراف على القوانين لم يحصل فجأة، ولم ينتج من ساعة غفلة. ولم تتسبب فيه النوازل الطبيعية. بل هو سليل نهج متقادم برز مع دولة الاستقلال، ونما وتطور في مسالك ومعارج الممارسات السياسية التي تخللت محطات التاريخ اللبناني. غير أن الخفر النسبي الذي كان يميزها ويحدّ من تفاقمها، طوال الزمن السياسي السابق على وضع الحرب الأهلية لأوزارها، تحوّل الى نقيضه، فصارت هي القاعدة التي تحكم وتقود.
من المفيد القول إن التقدم الحاسم للأعراف مبعثه الأول والأخير ممارسات سياسية واجتماعية، لها مثالات محرضة، هي حصراً المثالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية نفسها التي تعشش في مراكز القرار، وتحتكر مقاليده بهذه الذريعة أو تلك. وهي في جوهرها ممارسات تستند الى ركيزة ثقافية حاسمة، لكونها في ازدرائها القوانين أو في إحلالها محل التابع، تصدر عن وعي مصلحي لا شائبة فيه.
النقاشات «القانونية» المندلعة اليوم، سواء في ما خص موضوع المحكمة الدولية وآليات إقرارها وتبرير السياق «الدولي» الذي سلكته أو تنوي سلوكه، أو موضوع النصاب النيابي المطلوب لتوفير الشرعية التي تتيح انتخاب الرئيس الجديد، لا تضيف أي جديد على الصراع الممسك بالبلد، وخصوصاً أن الذين يتولّون «الخطابة» في هذه المواضيع وغيرها، ينطلقون من اعتبارات جد خاصة، وجد ضيقة. وهم فضلاً عن ذلك، يُشهد لهم قلّة تمكّنهم من المعارف القانونية أو الدستورية. بالإضافة إلى أن ممارستهم تشي بأنهم من أبعد ما يكونون عن تمثّل القوانين أو اعتمادها، بل إنهم من الذين يُسجل لهم دوس القوانين، وبالذات منها، تلك التي كان يمكنها أن تقيّد استيلاءهم على مغانم المواقع العامة التي ينفردون بها جيلاً بعد جيل. وشطب «المجلس الدستوري» عينة من الكيفية التي يدوسون بها القوانين.
في لبنان تستمر «النقاشات القانونية» وقتاً أطول مما تستحق. واستمرارها يوحي أنها صارت سمة من سمات الزمن السياسي اللبناني المحاصر. تغيير هذه السمة يكون بحصول ما يعيد خلط الأوراق، ويساعد في مهمة إزاحة هذا الفريق السياسي الذي يواصل الحجز على الدولة ومقدراتها.
الجديد اللافت أن سيادة الأعراف التي طالما استحكمت بالبلد، باتت هي الأخرى مهددة. في الواقع أن المطروح بات أكثر جذرية. المطروح اليوم هو الانقلاب أيضاً على الأعراف، التي سبق لها في محطات مماثلة، أن حكمت في قضية النصاب الواجب توافره لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، ما يعني أن الشكوى التاريخية من غياب القوانين لحساب الأعراف لم تعد ذات قيمة.
النائب نسيب لحود المشهود له باحترام «القوانين» سجل على نفسه أول من أمس، انزلاقاً جديداً كان في غنى عنه، فهو في «إفتائه» بجواز عقد جلسة لا تضم الثلثين، وتأكيده أن النصاب المطلوب لانتخاب الرئيس يكون بالأكثرية المطلقة أي 65 نائباً، يضع نفسه خارج الإطار «الدولتي» الذي ميزه من الكثير من رجالات السياسة اللبنانيين.
إذا كانت سمة لبنان أن الأعراف تتقدم القوانين، فإن السمة التي تميز الجوار العربي هي الغياب شبه الكامل لها. مع الإشارة الى أن غياب القوانين لا يعني انعدامها، بل يؤكد وجودها كديكورات وهياكل فارغة ليس إلا.
* كاتب لبناني