نجيب نصر الله *
تتعذر الإحاطة بأسباب التردّي الذي يعيشه الواقع العربي. مردّ التعذر هو هذا التراكم المتمادي في كمّ الأسباب ونوعها. الاكتفاء بمقولة «الفشل التاريخي» للمشروع العربي، لا يفسر هذا التوالي في التهافت المريع، وغير المسبوق، الذي شكلت قمة «الرياض» الأخيرة ذروة جديدة فيه. فهذه القمة نجحت في أنها شرّعت أمام خطوات إضافية في مسار «التفريط» بالحقوق والواجبات. الحلقة الأولى فيه هي الفكرة العبقرية التي تقضي بإيفاد من يعرّف إيهود أولمرت بـ«المبادرة العربية»!، والعمل على إقناعه بفوائدها الجمّة لإسرائيل.
«الفشل التاريخي» والنهائي، قراءة غير ناجزة بعد، ولا تفي العجز العربي أسبابه. إنجازها يحتاج الى تعيين حقيقي ودقيق لمجمل الأسباب التي اعترضت، وتعترض، بلورة المشروع العربي النهضوي، وأولها مسؤولية «الغرب» المؤكدة عن تغييب الديموقراطية من جداول الأعمال العربية كافة، إلى مسؤولية الاختراقات السياسية والأمنية الغربية التي تمثلت تاريخياً، كما هي متمثلة اليوم، بالنظامين السعودي والأردني، في الحؤول دون آمال المنطقة في ولوج باب التحديث السياسي. تحديد أو تعيين المسؤولية السعودية الكبيرة في ضرب «المشروع العربي»، على شوائبه، الذي مثلت الناصرية إحدى محاولاته، يشكل مقدمة ضرورية للبناء المختلف. ومن دون هذا التعيين فإن الأمل في سلوك الطريق المغاير مستحيل التحقق.
نعايش واقعاً غريباً تزداد فيه درجة الطلاق بين الاسم والمسمى. استمرار الطلاق وتفاقمه يشكل سبباً حاسماً للقول إنه لا قيامة ولا خلاص قريبين من براثن المرض الذي يستوطن الجسد العربي.
لن يستقيم الواقع العربي سياسةً واقتصاداً واجتماعاً وتنميةً إذا ما استمر الطلاق بين الاسم والمسمى. بين المصطلح والمعنى. بين القول والفعل. كل كلام آخر لا يأخذ هذا التحدي في اعتباره لا يعدو ان يكون لغواً يفاقم من حال العجز التي تكاد تخنقنا. وهنا من الضروري القول إن التحدي هذا يطرح نفسه أول ما يطرح على مشاريع وبرامج المشاريع التي تطرحها الأحزاب والقوى المسماة بديلة.
الأدلة على الانفصام الحاد بين الاسم والمسمى وفيرة. «الانتخابات» السورية وهي ملهاة مكررة، تعبير بالغ الفجاجة عن هذا الواقع الذي يكاد يكون السمة المشتركة الوحيدة.
«الانتخابات» السورية قسر أمني وسياسي جديد، على نحو ما تجري الأمور أيضاً في هذا البلد العربي المعطل. ولا تعدو ان تكون استعادةً أو تكراراً «ممتازاً» للمسرحية المبتذلة نفسها التي تقام كل أربع أو خمس سنوات، وفي ظن أصحابها أنها يمكن ان تنطلي على الناس، وخصوصاً ان مجمل «القوانين» التي تنظم هذه العملية السورية، أو غيرها، تنبع في جوهرها من نظام الطوارىء البعثي الساري المفعول، فضلاً عن ان «الصلاحيات» المعطاة «للنائب السوري» تنحصر في صلاحية رفع اليد كلما طُلب منه ذلك، أو إبداء الموافقة على ما تقرر خارج قاعة المجلس (هنا يمكن مراجعة الشهادة المعبّرة للنائب السوري السابق رياض سيف). الملهاة البعثية المتفاقمة منذ تاريخ الاستيلاء الانقلابي على الحكم باتت، وخلافاً لأيام الرئيس الوالد، تفترض وجود مسحة ديكور لا تتوافر إلا من خلال هذه المحطات المسماة زوراً «انتخابات». أما في حقيقتها فهي تجديد لنظام التعقيم السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يفرضه البعث على سوريا.
الحال السورية ليست استثناءاً. ففي مصر أيضاً تجهد السلطة في سبيل تذليل «العقبات» الأخيرة التي تعترض عملية تقليد جمال مبارك مسؤوليات الموقع الأول. الأنباء الواردة عن تفاقم الاعتلال في صحة الرئيس حسني مبارك تفرض التسريع، وهو ما يتجلى بتشديد القبضة الأمنية ورفع وتيرة الاعتقالات، والاستهداف المباشر للقضاء. «الاستفتاء» الذي أُجري قبل أشهر على «التعديلات الدستورية»، مسرحية مصرية تلتقي مع المسرحية السورية في تأكيد الطلاق بين المبنى والمعنى.
ما تقدم يفيد في فهم الحملة التي تستهدف حزب الله، والاحتمالات التي يفتحها لإعادة التزاوج بين الاسم والمسمى، وهنا مكمن الخطر الذي يستشعره النظام العربي الرسمي.
ما كان للتكالب الغربي ـ العربي ليكون على هذه الشاكلة الفظة، لولا أن الأمثولة التي أعطتها تجربة حزب الله تتّسم بهذا القدر الجذري من القطع مع ثقافة «الجملة الثورية». إن التأسيسية التي تتسم بها تجربة الحزب لجهة المطابقة الحاسمة بين القول والفعل، بين الاسم والمسمى، بين المحتوى والشكل، تستدعي هذا القدر الجدي من الهلع العربي. وهو ما يتجلى اليوم في الهرولة «العربية» نحو الاستسلام الكامل.
الهجوم الجذري الذي يستهدف «الحزب» اليوم يشبه ما تعـــــــــــــــرضت له «الناصرية» على أيدي الجهة العربية نفسها. وهـــــــــي الجهة التي تتزعم اليوم ما يعرف بـ«حلف المعتدلين»، الاسم الحركي للاختراق الغربي التاريخي في جسد المنطقة.
* كاتب لبناني