لا بد أن محمود عباس أكثر الفلسطينيين سعادة بالعام الجديد، بعدما زالت الغمة عن مزرعته السعيدة، وباتت كما يعتقد أكثر «أمناً واستقراراً». فقد انحسرت الأحداث التي انفجرت قبل أكثر من ثلاثة أشهر، ولم تعد مرشحة للانفجار الشامل الذي كان يخشاه.
اعتقاده هذا بزوال «الخطر»، هو الذي دفعه لإنزال رجال شرطته في الأيام الماضية لمنع الشباب وصدهم عن الوصول إلى نقاط التماس مع جنود الاحتلال، وهو الذي أحجم عن فعل ذلك طوال الفترة الماضية بذكاء ودهاء. مسألتان أساسيتان بعثتا الطمأنينة في قلب صاحب «المزرعة السعيدة» ما شجعه على هذه الخطوة الآن وهما: أولاً، انحسار حجم المواجهات الميدانية وتركزها في مدينتي القدس والخليل، إلى جانب مواجهات موسمية أقل حدة من السابق في مناطق أخرى من الضفة المحتلة. وهو انحسار جغرافي عائد لطبيعة انتشار قوات الاحتلال وفقاً لخريطة اتفاقية «أوسلو». ثانياً، وهي النقطة الأكثر أهمية تتمثل في ملاحظته تراجع اهتمام القاعدة الشعبية بمتابعة الأحداث والتفاعل معها، وبالتالي بات بإمكانه اليوم وبكل جرأة مواجهة هؤلاء «الشباب الصغار» جيل أوسلو من دون خشية رد فعل الناس.
حينما عاد محمود عباس من حربه الوهمية وانتصاراته الأشبه بالحمل الكاذب في الأمم المتحدة، وبعدما ألقى «قنبلته الدخانية» هناك، كان ذلك قد تزامن مع وقوع عملية إطلاق نار في منطقة نابلس قتل فيها مستوطن وزوجته، تبعها عملية الطعن التي نفذها الشهيد مهند الحلبي في القدس. هذا التزامن شكل فرصة لزبائنية عباس ليركبوا الموجة ويقدموا الأمر كأن الشارع تحرك على وقع خطاب «قائده الفذ»، معتقدين أنها عمليات فردية محدودة كسابقاتها. ولكن حينما توالت الأحداث وخرج لنا جيل لم نتوقعه إلى الشوارع بغضب ووعي، أدركت حاشيته أن العاصفة هذه المرة عاتية ويجب الانحناء أمامها، وهي لا بد أن تمر بسلام بمرور الوقت. فسكت على مدى أيام حتى خرج لنا آنذاك بخطاب مقتضب أشبه برفع العتب. وها هو اليوم يتنفس الصعداء ظنّاً منه العاصفة قد مرت.
محمود عباس، سعيد اليوم وهم ينقلون له ذلك المشهد السوريالي والمتمثل في وجود شباب يناضل ويلقي الحجارة ويصاب ويستشهد عند أطراف المدن، بينما الحياة داخلها تسير وفق رتابتها المعهودة، فالناس بغالبيتهم يمارسون حياتهم داخل أسوار المزرعة كأن «العرس في بيت الجيران». صاحب المزرعة في بداية هذا العام يقهقه منتشياً باكتشافه واقتناعه أن سياسات التدجين الاقتصادي والتشويه الثقافي والوطني التي قادها منذ عام 2005 حتى يومنا هذا قد نجحت بصورة لافتة، ويقول لمن حوله: هل رأيتم؟ لقد فشل هؤلاء «الأولاد» في نقل عدوى جنونهم إلى بقية «سكان مزرعتي».
لم يكلف نفسه عناء شرح دعمه للسعودية في الحرب على «الإرهاب»

عباس يصول ويجول الآن في مزرعته بعد أن اجتاز اختباراً صعباً خلال الأشهر الماضية، وهو الآن أكثر يقيناً من خراب البيت وانهيار أركانه، وبذلك لا أحد يتحرك خارج فلكه أو بعيداً عن قبضته. فالأحزاب السياسية فشلت في استثمار الصرخة التي أطلقها «الشباب الصغير» ودفعوا ثمن إطلاقها من دمهم وأعمارهم. فشلت قيادة هذه الأحزاب في توفير الحاضنة النضالية والتوجيه والقدوة لهم وتقدم صفوفهم، بل تبيّن حجم عجزها عن التأثير في الواقع والميدان وانعدام ثقة الشارع بهم. لذلك عباس يقول في نفسه قول المنتصر: إذا لم يتحركوا في هكذا لحظة استثنائية، متى ممكن أن يستيقظوا؟
هذا يعني عملياً أن «منظمة التحرير» باتت كالخاتم في أصبعه، فيدعو إلى اجتماع لها وينفذ، أو لا ينفذ، قرارات لجنتها ومجلسها؛ هو سيد البيت دون منازع. يعتلي منصة الأمم المتحدة ويقول ما يشاء، فنغرق في تحليل قوله المبهم الشبيه بـ«حجابات المشعوذين»، فهو يقول الشيء ونقيضه في الجملة ذاتها. قال سنوقف الالتزام باتفاقات «أوسلو» إذا لم تلتزم بها إسرائيل، وها قد مضت أشهر دون أن نعلم متى سيتبين له التزام إسرائيل من عدمه، وما هي معاييره لذلك؟ وما هي آليات وقفه العمل بـ«أوسلو» وما هي بدائله؟ هل خاض نقاشات وطنية سواء داخل المنظمة أو خارجها لتحديد الطريق؟ وهل من أحد سأله أو لديه الجرأة أن يسأله عن ذلك؟ إنه رب البيت فمن يخرج عن طوعه «يقطع عنه المصروف». ألم يفعل ذلك من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» على سبيل المثال؟
لا بد أن صاحب المزرعة السعيدة يضحك منتشياً حين يقرؤون له في الصباح مقالات المثقفين الفلسطينيين وتحليلاتهم السياسية، فهي لا تقل غرابة وغموضاً عن خطاباته الكثيرة التي لا صلة لها بالواقع أو الفعل. فهذا المثقف تحول في حقيقة الأمر كشقيقه المثقف العربي إلى «موظف» يعتاش مما يقول ويكتب، وينتمي إلى «النخبة» وجبنها، والسلطة ورئيسها اليوم من ثوابت تحليل هذا المثقف ومرتكزاته، يختلف معهما ولكن لا يختلف عليهما. ولذلك فعباس يشكّل ويعيّن مجالس مؤسسات ثقافية كمؤسسة «محمود درويش» متى أراد ويحل مجلسها متى أراد؛ لا راد لقراره أو قدره!
وانسجاماً مع حالة المثقف، فان عباس في مزرعته وبعد مرور تلك المدة على الانتفاضة الثالثة، بات مطمئنا أيضاً إلى «المؤسسات الأهلية». فهي مؤسسات بمعظمها لا شأن لها بالأمر السياسي. جل همها خطاب «الأنسنة» المعزول عن الهم الوطني. منذ إحراق محمد أبو خضير مروراً بإحراق عائلة الدوابشة وليس انتهاء بحالات الإعدام الميدانية للأطفال والفتية، لم نر أو نسمع بفعل مؤثر لهذه المؤسسات تجاه هذه القضايا. فربما ذلك لا يأتي على هوى الممول ولا على هوى عباس نفسه. ألم يملأ هو بذاته الأرض قعقعة حول انضمامه للمؤسسات والمحكمة الدولية، وبأنه سيلاحق إسرائيل على جرائمها؟ هل رأى أحد منكم طحيناً من هذه القعقعة؟
إن تفرد محمود عباس بمزرعته واطمئنان قلبه لما يدور ويحدث داخل أسوارها جعله يقرر ويبني الأحلاف ويحدد «السياسة الخارجية»، على هواه أيضاً ومن دون أن يكلف نفسه حتى عناء شرح أو توضيح ما يفعل. فهو بالأمس اتخذ خطوة أقل ما يقال فيها «شر البلية ما يضحك». انضم إلى تحالف السعودية لما يسمى «محاربة الإرهاب». ولم يقل لنا ما هو الإرهاب الذي سيحاربه تحت لواء السعودية؟ وإن كان الاحتلال من ضمن القائمة؟ أم أن الأولوية الآن للخطر الإيراني الشيعي؟ ولم يشرح لنا ما هي مساهمته في هذه الحرب؟ هل هي مساهمة عسكرية أم مجرد دعم معنوي للسعودية؟ وإن كان دعماً معنوياً فضد من؟ وما هي الفائدة التي ستعود على القضية الفلسطينية؟ وألا يعتبر ذلك تدخّلاً في الشؤون العربية الداخلية التي ينكرها على غيره؟
ربما الخطوة الوحيدة التي اتخذها عباس مؤخراً وكانت واضحة لا لبس فيها، هي تكريمه لملك السعودية بـ«وسام فلسطين الأرفع»، وقد أشاد بدعم الدولة الشقيقة للقضية الفلسطينية. وهو واضح هنا لأنه يقصد دعم قضيته هو التي يؤمن بها والمرتكزة على «المبادرة العربية» التي قدمتها السعودية بنفسها خلال الانتفاضة الثانية. فهذا تكريم لمن يدعمه في حروبه الوهمية وليس بالضرورة لمن يدعم الحق الفلسطيني المعروف والثابت، الذي عبر ويعبر عنه الأطفال والشباب يوماً بدمهم.
لا شكّ أن الراحل ياسر عرفات هو المسؤول الأول عن كارثة «أوسلو»، ولكنه حتى وقت حصاره في «المقاطعة» كان دائماً يحاول إمساك العصا من الوسط، فإلى جانب مفاوضاته وتطبيعه مع الاحتلال بل قمعه المناضلين وملاحقتهم في بعض الأحيان، لم يتخل عن خطاب أو فعل النضال والمقاومة، وكان مستعداً لاستخدامه عند الضرورة التي يراها، وهذا ما فعله في الانتفاضة الثانية.
من جهة أخرى ورغم الفساد الذي انتشر في عهد عرفات، فهو لم يحول القضية الوطنية إلى مجرد مشروع اقتصادي. على عكس عباس الذي منذ تسلمه زمام السلطة حتى اليوم يؤكد ليل نهار نبذه لأي فعل نضالي. وقد تحولت السلطة في زمنه إلى ما يشبه «الشركة الاقتصادية» لكل فرد من حاشيته أسهم فيها. وربما ليس هنالك أبلغ من حدث جرى في بداية هذه الانتفاضة، حيث في الوقت الذي كانت المواجهات مع جنود الاحتلال مشتعلة والشباب يعدمون أمام شاشات التلفزة، وكان الإعلام كله منشغل بذلك، كان هو يفتتح مشاريع اقتصادية ويدعو المستثمرين إلى القدوم إلى الضفة، كأنه يقول لهم لا شان لنا بما يحدث.
منذ أن أوقف محمود عباس «المفاوضات مقابل الاستيطان» قبل سنوات، سادت بينه وبين الإسرائيليين سياسة ضمنية مريحة ومربحة للطرفين، كل حسب الربح الذي يبحث عنه. فعباس رغم إيهامه الشعب والعالم انه يقارع الاحتلال ويرفض التفاوض معه، فإن التنسيق الأمني يسير على أكمل وجه، والتبادلات والتعاون الاقتصادي على حاله الجيد، ولم تتضرر طوال «وقف المفاوضات» مصالح الشركات أو أصحاب رؤوس الأموال القريبة من السلطة. وهذا هو الربح الأهم له. في حين أن إسرائيل مستمرة في فعلها الميداني كما تشتهي وتريد، من مصادرة أراضي وبناء مستوطنات والاعتقالات والاقتحامات عند الضرورة، وهذا هو ربحها الذي تبحث عنه. وبهذا تبقى الحروب الوهمية في ساحات الأمم المتحدة عبارة عن «شعرة معاوية» التي توفر قليلاً من شرعية الوجود لعباس كما يظن، وهو الذي انتهت ولايته الانتخابية قبل أكثر من خمس سنوات.
سعيد محمود عباس في مزرعته إذاً على كل الأصعدة. ولكنه برأينا في الوقت نفسه واهم إن ظن فعلاً بأن سعادته هذه ستدوم. وواهم أكثر من اعتقد بأن «خراب البيت» سيستمر على حاله. فالتاريخ الفلسطيني المعاصر والذي هو عاصره وعاشه بتفاصيله يخبرنا بأن عند طرف كل خراب هناك «جيل مجدد»، وهذا الجيل قد اتضح لنا الآن من هو وما هي صفاته وأدواته، وهو قد بدأ الطريق، وان كانت طريق طويلة ومتعرجة، لكم الخراب المتراكم أمامه، ولكنه سيسير فيه إلى نهايته. هكذا التاريخ يقول، والتاريخ صادق.
* صحافي فلسطيني ــ باريس