لا شيء يثير حسرة العربي، وهو في بلادٍ خيرها كثير ولكن شرّها يغلب خيرها، كأن يراقب تطوّر وتراكم البنى التحتية والتكنولوجية في بلدٍ كاليابان. منذ 1964، عام افتتاح خط القطار الياباني السريع، «شينكانسن»، كرّس البلد نفسه كرائد لتكنولوجيا النقل والسكك الحديدية.
اسم الشينكانسن يعني ببساطة «الخط الرئيسي الجديد»، لأنه بني كشبكة موازية للخطوط القائمة. ومع انّه توسّع عبر العقود وتمدّد على طول وعرض الجزر اليابانية، فإنّ أنجح خطوطه وأهمّها لا يزال خطّ «التوكايدو» في وسط اليابان؛ أساس النظام وفرعه الأول، والذي بني لكي يصل بين أكبر ثلاثة تجمعات مدينية في البلاد: طوكيو\يوكوهاما، ناغويا، وأوساكا.
اليوم، يبدأ العمل لبناء خط شينكانسن جديد، «شينكانسن تشوُو»، الذي سيكتمل بحلول عام 2027 ليردف خطّ «التوكايدو» ويقصّر المسافات أكثر. «التوكايدو»، الذي ينقل ما يقارب مئة وخمسين مليون مسافر سنوياً، ينطلق من طوكيو، ثم يتعرّج على طول ساحل جزيرة «هونشو»، خادماً مدنها الساحلية، قبل أن ينعطف الى الداخل باتجاه ناغويا، ومن ثمّ يعبر السهول الداخلية الى أوساكا على البحر مجدداً.
«التشوو» سيأخذ طريقاً مباشراً بين المدن الثلاث الكبرى، متجنباً الساحل والمحطات الوسيطة، وهو لا يجب أن يُنظر اليه كخطّ قطارٍ «عادي»، بل كنفقٍ طويل ـــ أو سلسلة أنفاق، اذ أن ما يقارب التسعين بالمئة من الخط سيكون تحت الأرض ــــ يعبر تحت جبال الألب اليابانية ليصل طوكيو بناغويا في مرحلته الأولى، قاطعاً 290 كيلومتراً (أي كالمسافة بين دمشق وحلب) في أربعين دقيقة. ثم يُكمل في مرحلته الثانية ــــ تفتتح بحدود عام 2045 ــــ الرحلة الى أوساكا، ليقطع الخمسمئة كيلومتر بينها وبين طوكيو (المسافة بين حلب وعمّان) في ساعة وسبع دقائق.
الميزة الثانية، والأهم، للقطار الجديد هي أنّه سيعتمد تكنولوجيا «ماغلف»، أي القطار الذي يستعمل القوة المغناطيسية ليرتفع عن السكة بسنتيمرات و»يطير» فوقها، بدلاً من الاحتكاك بها والسير عليها؛ وهو ما يسمح ببلوغ سرعات غير مسبوقة. السرعة التشغيلية لخط تشوُو ستكون 500 كيلومتر في الساعة حين تبدأ الخدمة، وهي سترتفع بالطبع مع نضوج التكنولوجيا ودخول أجيال جديدة من القطارات (على خطّ التوكايدو «التقليدي»، تم تحديد السرعة القصوى بـ 285 كيلومتراً في الساعة).
في السنين الماضية، تمّ ــــ الى حدّ بعيد ــــ تسفيه فكرة المشاريع القومية التي تبغي حلّ المشاكل السياسية عبر أدوات تكنولوجية وعبر تذليل عوائق الطبيعة. تمّ رمي هذه الأفكار في سلّة «التقنية ــــ القومية» التي تنتمي الى زمنٍ مضى. الا أنّ اليابان مثلاً، حين حظيت بالـ «شينكانسن»، تغيّر فيها نمط حياة الناس، وأعمالهم، وثقافتهم، وصولاً الى السياسة واحتمالاتها. لهذا السبب، حين ننظر الى هذه النماذج، ثم نتفكّر في أحوال بلادنا ومستقبلها، يجب أن لا يغيب عن أذهاننا ما بين السياسة والتكنولوجيا من اتصال.