نجيب نصر الله *
يستمر السباق قائماً بين «المساعي» المبذولة لوضع حد للأزمة التي بات واضحاً أن تطورها يهدد مجمل المصير اللبناني، وواقع التصعيد السياسي والميداني. صحيح أن الاصوات التي علت في الايام الأولى، داعيةً الى الحسم العسكري، قد تراجعت، إلا أن هذا التراجع بقي لفظياً ولم يُقرن بأي ممارسة مغايرة. فالهدف المشبوه الذي استبطن هذه الدعوة لم يزل قائماً، وهو ما يتجسد سياسياً بالإصرار على نهج الاستئثار، وبالامتناع عن تلقف، او ملاقاة، دعوة «المعارضة» الى ضرورة الاتفاق على صيغة سياسية إنقاذية، تسمح بالارتقاء الى مستوى التحدي الخطير الذي يمثله الحدث الشمالي.
ان البراهين على مسؤولية فريق السلطة عن المأساة التي حلّت بالجيش اللبناني واضحة ولا تعوزها البراهين. ومن دون الخوض في استعراض تاريخ الشحن المذهبي والطائفي، وغيرها من ضروب وأشكال التوتير والتأزيم، التي لجأت اليها قوى السلطة على مدى الأشهر الماضية، في سعيها المحموم للابقاء على تسلطها، يكفي الوقوف عند «الردود» التي حاولت تشويه المبادرة المسؤولة التي أطلقها السيد حسن نصر الله. ففي هذه «الردود» الكثير من الدلالات التي أضاءت على حقيقة النيات التي تستوطن نفوس وأفئدة قادة هذا الفريق.. من غير أن نتناسى، طبعاً، الاحتضان المالي والسياسي المباشر وغير المباشر لهذه الجماعة، والذي لا يختلف عن الاحتضان القائم للجماعات الساكنة، تلك، التي لم تتحرك بعد، وفي طليعتها جماعة «جند الست».
إن في القفز القصدي فوق المبادرة ما يؤكد أن هم هذا الفريق، كان وسيبقى، محصوراً في الحفاظ على «المواقع» التي تحصلت له، وأنه غير مستعد لأي حوار جدي، لأن من شأن هذا الحوار، إن هو لامس جوهر القضايا الخلافية، أن يفرض عليه كشف الأوراق، وبالتالي، تجريده من الادعاءات التي تغذي خطابه، القائم على الزيف والتزوير. وما الانقلاب السافر على مقررات «الحوار» ومن بعدها «التشاور» الا دلالة اضافية على هذه الوجهة الممسكة بسياسات هذا الفريق، الذي باتت تقاطعاته واضحة مع كل من يريد النيل من الموقع الطبيعي للبنان.
ليست الوطنية شعاراً نتشدق به. الوطنية وعي وممارسة، وتبرز أكثر ما تبرز في الملمات. اللحظة السياسية والأمنية التي يعيشها البلد هي من هذا النوع، ولأنها كذلك، وهي حتماً كذلك، فإنها تستدعي من الجميع، خصوصاً من فريق السلطة، وقفة مختلفة، تساعد في منع الانزلاق نحو الهاوية المحتومة التي تتربص بالبلد. خصوصاً أن الرسائل التي تنطوي عليها «الازمة الشمالية» واضحة وجلية الى درجة لا تنفع معها وسائل «الزعبرة» التقليدية وأدواتها، تلك، التي تعتمد التنصل من المسؤولية. الرسائل التي يحملها استهداف الجيش غير عادية، وعلى قدر من الخطورة، التي تهدد بتحويل البلد الى ساحة إضافية للحروب المفتوحة.
من هنا فإن أقل الأفعال الممكنة بإزاء حدث بهذا الحجم وهذا النوع، هو المبادرة الى إعمال الشعور الوطني، وتنحية الأوهام، وتلقف المبادرات، وفي مقدمها، تلك، التي أطلقها الأمين العام لـ«حزب الله»، والشروع الفوري في البحث عن السبل التي تؤمن الوصول الى الصيغة التي تمنع الانزلاق وتحمي البلد، خصوصاً ان سلوك هذا الدرب لا يشترط، وهنا تكمن جديتها، إلغاء الاختلافات، بل تنظيمها في إطار سياسي.
«المترسة» عند المواقف المعلنة، أو غير المعلنة، من قضية «فتح الاسلام» سوف تزيد من الانكشاف الامني والسياسي، وهو الانكشاف الذي مكّن ويمكّن هذه البؤر من الوجود والتنامي.
الأداء الذي اتّبعته السلطة مع أحداث الشمال كشف عن وجود رهانات ضمنية ترى أنه في الإمكان البناء على جريمة الاستهداف التي طالت الجيش لتحسين المواقع المترنحة. التعبير الأبرز عن هذا الرهان تجلى في الدعوة الى «الحسم العسكري». اليوم، ومع التنصل من هذه الدعوة، فإن السلطة مطالبة بخطوة أكثر تقدماً، وهذه الخطوة تستدعي الاعتراف بالمسؤولية ومفاتحة الرأي العام اللبناني بالحقائق التي لابست نشأة تنظيم «فتح الإسلام»، وظروف تمويله وانتشاره، ومن جهة ثانية الاعتراف بالأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي تمنح هذه الحركات قدرة اجتذاب المهمشين، ووضع المعالجات المستقبلية، والكف عن القول بالمسؤولية الخارجية، الذي ذهب اليه السيد وليد جنبلاط، والذي كرر معزوفة المسؤولية السورية، من دون ان يكلف نفسه تقديم الأدلة.
إن في الاستقالة من المسؤولية ما يفضح رهان السلطة الضمني على الاستفادة من الحدث الشمالي وتوظيفه لإحراج خصومها. وخلافاً لكل الأوهام، فإن البناء على توريط الجيش لن يزيد في أسهم السلطة، ولن يفتح في اتجاه استعادة الوزن المتداعي.
الأزمة تراوح مكانها. استمرار العمليات العسكرية بين الجيش وجماعة «فتح الإسلام» يهدد بتوسيع النزيف الشمالي، وتحويله الى خطر حقيقي يهدد بالانتشار، الى حد يصبح معه ضبط النار التي أشعلتها الحسابات السياسية الضيقة صعباً. احتمالات التمدد باتت جدية، خصوصاً مع غياب الأفق الذي يسمح بتقدم الحلول، الحلول التي تضمن الحفاظ على كرامة الجيش، وتضع حداً لعبث العصابات «القاعدية» التي جرى استحضارها لغاية المواجهة مع المقاومة، فكان ما كان من انقلاب.
لبنانية الأزمة قاطعة، ولا تحتمل مزاحاً من نوع القول بالمسؤولية السورية، ولو أن في سوريا من سوف يعمل على الاستفادة منها. إنها ببساطة شديدة، فصل جديد في الأزمة اللبنانية المتفاقمة، ووسيلة جديدة يراد منها تحويل الأنظار عن المأزق الذي تعيشه قوى الهجوم على المنطقة وأدواتها. والمدخل الوحيد لأي معالجة هو الأخذ بالحل السياسي ــــــ الامني ــــــ القضائي المركّب الذي اقترحته قوى المعارضة.
* صحافي لبناني