لفتت أحداث اليمن أنظار المتابعين، وكثرت الكتابات بشأنه وشأن تطورات الوضع فيه. فيلاحظ أن هناك أخطاء منهجية وفي المعلومات في بعض المقالات والتقارير. السبب في ذلك أن الحالة في اليمن لم تكن على رأس أولويات محرري الأخبار ومحلليها في السنوات الماضية إلا ما ندر. وبما أن صحة المعلومات ودقتها وتحديثها شروط أساسية في منهج التحليل السياسي، فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار عدداً من الملاحظات:1ــ الزيدية كمذهب هم سنة الشيعة وشيعة السنة، فيتلاقون في العقيدة مع الجعفرية، وفي الفقه مع الأحناف. هذا الفهم ليس كافياً، فالزيدية تتضمن مدارس متعددة واجتهادات متفاوتة، تقع على رأسها المدرستان الهادوية والجارودية.

مثّل السيد مجد الدين المؤيدي المدرسة الأولى، والسيد بدر الدين الحوثي الثانية. وقد وقعت بين المدرستين مناكفات تراجعت بعد وفاة السيدين، وتسلّم ابناهما عبد الملك الحوثي وحسين المؤيدي دفة المذهب. تبدو الجارودية أكثر تصالحاً مع المذهب الجعفري، لكن كان للهادوية ثقل قبائلي وتاريخي غير سهل (قبيلة بكيل على وجه التحديد). لا يستقيم هذا التفصيل إلا بالإشارة إلى غياب التوتر المذهبي في اليمن، وهو لم يطفُ على سطح الأحداث إلا بدخول العامل السعودي إلى الجار الجنوبي منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.
2ــ حتى 1962، كانت نسبة الزيدية في اليمن الثلثين، لكن بعد اغتيال الرئيسين الغشمي والحمدي، وصل علي عبد الله صالح (الزيدي السنحاني الحاشدي) إلى السلطة، فعاد النفوذ السعودي بقوة إلى اليمن بعد حروب الستينيات. هنا اتخذ السعوديون قراراً لطالما اتخذوه سابقاً، وهو ضخ الفكر السلفي الوهابي في ربوع اليمن «السعيد» كذراع نفوذ مضمونة في هذا البلد الذي يهدد، بتغيراته، الأمن القومي لآل سعود. فجاءت بمقبل الوادعي من أحضان جهيمان العتيبي إلى صعدة، بالتحديد، لمهمة واحدة وهي توهيب اليمن. كان الأمر مستفزاً جداً بأن يقوم السعوديون ببناء دار الحديث في دماج في معقل الزيدية التاريخية التي هزمت في الستينيات. هنا، يؤخذ على مشايخ الزيود تراجعهم الكبير بعد انتهاء عهد الإمامة الزيدي، وانكفاؤهم عن تدريس مذهبهم. بنى السعوديون 1200 معهد لتخريج أصحاب الفكر التكفيري، بصمت، في ظل سياسة شراء ولاءات تضمنت لوائح رواتب لـ 60 ألف شخصية في اليمن.
3ــ تراجعت الزيدية إلى حدود قصوى، وباتت مهددة بالاندثار، فقد توهبت قبائل بكاملها كانت تنتمي سابقاً للخط الزيدي. وأبرز المتوهبين كان جزءاً كبيراً من قبيلة حاشد النافذة، وذلك على يد مشايخها من آل الأحمر. هذا الأمر دفع بمجموعة شبابية صغيرة لإنشاء «الشباب المؤمن» في 1987 لصد موجة الفكر التكفيري. انضمت هذه المجموعة، بعد الوحدة في 1990، إلى حزب الحق، ثم استقلت بقيادة حسين بدر الدين الحوثي بدعم من علي عبد الله صالح. كانت رسالة حسين الحوثي لجمهور اليمنيين عدداً من الملازم والدروس القرآنية. وقد تمكنت هذه المجموعة، رغم فقرها، من أن تعبّر عن طبيعة الشخصية اليمنية العفوية والعاطفية والمؤمنة والمقاتلة. ولا ننسى أن 70 في المئة من سكان اليمن يقطنون في الأرياف.
4ــ في 2004، اغتيل حسين الحوثي بطريقة لا تشرّف النظام اليمني السابق، وأعلن نظام صالح الحرب على مرّان، لكن المفاجأة أن هذه المجموعة قاتلت بقوة، ولم تضعف. أراد نظام صالح استغلال مخاوف السعودية من أي حراك «شيعي» قرب حدودها، ولعبت مشيخة حاشد، وآل الأحمر، وإخوان اليمن (التجمع الوطني للإصلاح) أدواراً تحريضية علنية تزلفاً للجنة السعودية المكلفة بموضوع اليمن (بإدارة سلطان). وبرز اسم الأخ غير الشقيق لصالح، أي علي محسن الأحمر، آمراً للفرقة الأولى المدرعة، بحيث كانت مهمتها الوحيدة ضرب نواة الإحياء الزيدي شمال اليمن. لم يُكتب لهذه الجهود النجاح، بل أورثت الحروب الست المتتالية «الحوثيين» عزاً وتمدداً.
5ــ في 11 آب 2009، وبدعم كثيف من السعوديين، شن الأحمر حربه الأخيرة مع «الحوثيين» (رغم مشاركته اليوم مستشاراً للجيش السعودي)، ثم تدخل الجيش السعودي علناً بعد أن كانت تدخلاته تقتصر على القصف المدفعي سابقاً. انتصر «الحوثيون» على الكماشة، ودخلوا عشرات القرى السعودية المتاخمة للحدود. وللأمانة، فقد قاتل هؤلاء قتالاً شرساً وبتفانٍ، في ظل غياب أي توازن للقوى على أي صعيد. ففي معركة جبل دخان، مثلاً، انتصر 30 مقاتلاً «حوثياً» على لواء سعودي كامل، وغنموا آلياته، وهي ما زالت تجوب صعدة حتى اليوم. رغم تكبّد أهل صعدة خسائر هائلة في الأرواح، بلغت 5000 ضحية، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، فإن إرادتهم لم تنثنِ. وحتى ذلك الحين، لم تكن إيران قد انفتحت عليهم، بل كانوا أرسلوا رسالة عتاب كبيرة في الإعلام على عدم نصرة «شيعة» العالم لهم في وجه المذبحة.
6ــ استمر توسع «أنصار الله»، وانفتح الإيرانيون عليهم، لكنهم تجاوزوا التحفظ الإيراني في العمل السياسي كثيراً. فحساباتهم أقل، وشعارهم الخماسي المعروف لا مداراة فيه. ما لا يعرفه البعض أن السلوك الأخلاقي للعناصر «الحوثية» حببهم إلى الناس، ولا سيما بعد مشاركتهم في اعتصامات الثورة في صنعاء. فانضم إليهم يمنيون كثيرون بغض النظر عن انتمائهم الديني، فالخطاب كان وطنياً إسلامياً. المهم في الموضوع أن أجزاءً من «حاشد» عادت إلى زيديتها، الأمر الذي أضعف سلطان آل الأحمر عليها. واستمر التوسع «الحوثي»، بخطاب وطني جامع، يفاجئ الجميع، في ظل قلق سعودي أميركي متنامٍ. اتُهمت «أنصار الله» بالسعي إلى العودة إلى نظام الإمامة الزيدي السابق، لكن خطابهم السياسي خلا من أي إشارة إلى الماضي. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن تعبير «إمامي» في اليمن ينصرف إلى حكم الأئمة الزيديين السابق، وليس إلى المذهب الجعفري.
7ــ في الحرب الحالية، عاصفة الحزم، والتي أعلن سفير السعودية في واشنطن عادل الجبير أن التحضير لها بدأ منذ أشهر، أي ليس لنداء عبد ربه منصور هادي أي دخل في الحرب، فإن انتشار «أنصار الله» باعتبارهم ثورة، بات يشكل تهديداً للعرش السعودي. ففرض الفشل السعودي في إدارة الشأن اليمني، بالإضافة إلى العقلية المذهبية المتحكمة في السياسة الخارجية للمملكة، التعويض بالتورط في محاربة أهل الحرب في اليمن أصحاب حضارة عريقة ضاربة في التاريخ. ليس متوقعاً أن ينتصر السعوديون من خلال القصف الجوي فقط، ولا متوقعاً أن ينتصروا في حرب برية أيضاً. الأخطر أن ترسيم الحدود الذي جرى بين السعودية واليمن عام 1990، والذي فرّط علي صالح بمكتسبات اليمن فيه، جعل قبائل نجران وجازان وعسير الزيدية والإسماعيلية في المقلب السعودي. هذا يعني أن انتشار الزيدية والإسماعيلية ممتد من صنعاء إلى الحجازين.
* أستاذ جامعي