نجيب نصر الله *
بعيداً من توصيفات «العاصفة» و«الزلزال»، وغيرها من مصطلحات صحيحة، يراد بها توصيف الحال التي تعيشها إسرائيل، من بعد صدور تقرير لجنة «فينوغراد»، فإن الثابت هو أن الانتصار اللبناني الحاسم الذي تحقق خلال حرب تموز هو المسؤول عن وصول الأمور الى ما وصلت إليه.
«التقرير» الإسرائيلي الذي لن يُذاع كاملاً لأسباب «أمنية وسياسية»، هو في حقيقته كشف أو اعتراف متأخّر بالعجز عن الاستمرار في تمويه النتائج التي أسفرت عنها تلك الحرب الكبيرة، والتي أُريد منها إلى القضاء المبرم على «المقاومة» وفكرتها، التأسيس لخريطة سياسية وثقافية جديدة تزيد من تفكيك المنطقة العربية، وهو ما أفصحت عنه كوندوليزا رايس خلال الأيام الأولى للحرب حين اعتبرتها المخاض الضروري لولادة الشرق الأوسط الجديد.
فشل التغطية على الانتصار اللبناني هو الترجمة الحرفية للفشل الأصلي. والإنكار العنيد الذي مورس طوال الفترة التي فصلت بين توقف العدوان وصدور التقرير، أدى الى نتائج معاكسة، وخصوصاً بعدما ثبت ان المحاولات السياسية اللاحقة التي تضطلع بها الولايات المتحدة وبعض العرب لامتصاص نتائج الانتصار عبر أدواتها اللبنانية لن تؤدي الى أي نتيجة.
صحيح أن التقرير يوفّر مخرجاً مرحلياً من الأزمة الممسكة بإسرائيل جراء الهزيمة اللبنانية، إلا أنه في الوقت نفسه يكشف عن حقيقة المأزق وطبيعته اللتين تتجاوزان شخص إيهود أولمرت، لتلامسا الفكرة الأصلية التي وفّرت استمرار هذا الكيان وجدواها. فالاختبار العسكري الذي تعرضت له اسرائيل، خلافاً لأصوات بعض اللبنانيين وبعض العرب، كان كبيراً، والاستمرار في المراهنة الحصرية على التفوق العسكري لم يعد ممكناً، أقله بالصورة التقليدية السابقة.
سوف يسقط إيهود أولمرت. وسوف يُعاد «ترميم» البنية السياسية، وسوف تُشكل حكومة جديدة، إلا ان التداعيات الجذرية الناجمة من المعطيات «اللبنانية»، الجديدة، التي فرضها الانتصار الموصوف، سوف تزيد من حضورها في المشهد الاسرائيلي، وسوف تكون بنداً مركزياً في الهموم المخيّمة في سماء إسرائيل.
ثمة محاولة مدروسة للفصل بين الأزمة الشخصية لأولمرت وبين الأزمة الأكبر التي تخصّ البنيان الاسرائيلي المأزوم. التعيينات المنتقاة التي ذكرها فينوغراد كأسباب مباشرة لما سمّاه «الإخفاق» الإسرائيلي، وحصرها بسوء التدبير أو الإدارة، لا تكفي لشرح الهزيمة التي مُنيت بها الدولة الأقوى في المنطقة، وخصوصاً أن هذه الحرب قد خيضت بدعم عربي ودولي مفتوح، وصل إلى حد فتح المخازن الخاصة بالجيش الأميركي.
لا حدود زمنية لردود الفعل، فالمتوقع أن يطول السجال ويتشعّب، إلا أن ذلك لا يلغي أن القراءة العميقة للتقرير ولطبيعة الردود المسجلة تفيد بأن تقرير القاضي الإسرائيلي إلياهو فينوغراد يكاد يخلو من المفاجآت.
«التسريبات» الرسمية التي سبقت الإعلان الرسمي للتقرير لم تكن بلا وظيفة. «التسريبات» التي سبقت، هدفت ضمناً إلى «التقليل» من مفاعيله المحسوبة جيداً، لكنها في المقابل أتاحت تلمّس المدى المسموح به. وكشفت أن ثمة خطوطاً حمراء ملزمة، وهي الخطوط التي تجعل من الحديث الرائج عن الديموقراطية الإسرائيلية يحتاج الى بعض الفحص.
الانسداد الراهن البادي في أفق المشروع السياسي الإسرائيلي، والمرتبط بالنتائج الناجمة من الهزيمة اللبنانية، هو الذي جعل من «التقرير» ضرورة لا غنى عنها، سواء للإيهام بتقديم قراءة إسرائيلية «محايدة» لأسباب «الإخفاق» أو لمحاولة امتصاص الانتصار اللبناني، وهو ما يتجلى في تركيز التقرير على ردّ هذا الإخفاق إلى أسباب مرتبطة بانعدام الكفاءة وقلة الخبرة. وإن الانسداد نفسه هو السبب الذي يجعل التقرير يحتل هذه المرتبة المركزية في المشهد الإسرائيلي الداخلي، وتالياً مادة شبه وحيدة للسجال الدائر.
من الضروري الانتباه الى أن البعض في لبنان ودول «الاعتدال العربي»، سوف يواصل نكران الانتصار، وسوف يذهب في محاولاته الى حدود التأكيد أن «العاصفة» التي تضرب إسرائيل سببها الوحيد هو التقرير، لا الموجبات التي فرضته. وإذا تعذر عليه البرهنة على هذه الفكرة سوف نراه يقول إن الديموقراطية الاسرائيلية وآليات المحاسبة «المحسوبة» هي التي أوجبت كل هذا التدقيق الإسرائيلي.
الأرجح أن الخشية من تأثير الدرس اللبناني المقاوم في الشارع العربي، هي التي تفرض الترويج لفكرة أن العاصفة التي تضرب اسرائيل سببها صدور التقرير. البرنامج التفريطي الذي وضعته قمة الرياض الأخيرة هو الوليد الأول لهذه الخشية المرشحة للتفاقم.
لا يقتصر الإحراج السياسي والأخلاقي على إيهود أولمرت. شركاء أولمرت «النشامى» الذين يكرهون «المغامرات» بدأوا بتحسس رؤوسهم أيضاً.
* كاتب لبناني