على طول سير المحادثات النووية، كان مصير صدّام حسين يتراءى أمام المفاوضين الايرانيين. الهمّ الايراني الأساسي خلال المفاوضات لم يكن في المفاصلة على الشروط التقنية (فخطوطها العامة معروفة منذ أشهر)، ولا في تشغيل أجهزة طرد مركزي أكثر أو أقل؛ بل في ضمان آلية واضحة لرفع العقوبات، وعدم ادخال ايران في نفق لا ينتهي من الابتزاز كما حصل مع العراق، حيث لا العقوبات ترفع ولا التفتيش يكفّ ولا الشروط تنتهي. في أوائل التسعينيات، شبّه طارق عزيز وضع العراق، وهو في فخ العقوبات الدولية التي لا أفق لها، بحال سجين محكوم مدى الحياة، يقول له السجان بأنّ عليه الالتزام بالسلوك الحسن، ولكنه سيظلّ في السجن على أية حال، ولو فعل.
لهذا السبب، كانت الشروط المتعلقة برفع العقوبات وتدرّجها وتوقيتها أكثر حساسية، ربما، من عدد أجهزة الطرد ومصير «فوردو» و»آراك». وقد حصلت ايران على التزام برفع كامل للعقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي، أممية واميركية واوروبية، دفعة واحدة، ومع بداية تنفيذ الاتفاق. الهدف الأول من الصفقة، بالنسبة الى ايران، هو اقتصادي وليس سياسياً، ولا أساس للتحليلات التي تفترض أن التوقيع سيفضي الى تطبيع سياسي بين طهران وواشنطن، وتوافق على القضايا الاقليمية، و»عهد جديد» بين البلدين. الاتفاق محصور بالملف النووي، بل ان العقوبات الأميركية التي أرسيت في عهد كلينتون ستستمرّ، وستظل التجارة بين ايران واميركا مقطوعة – الا أنّ ايران ستتمكن، على الأقل، من التعامل مع باقي دول العالم، وبيع النفط وجذب الاستثمارات، واستعمال الدولار ووسائط التحويل الدولية.
ولكن لا شيء يأتي مجاناَ. بعد الاعلان عن الاتفاق، ستنهمك واشنطن وطهران بالدفاع عنه وترويجه داخلياً، وتصويره كـ»صفقة جيدة» لصالحهما. عام 2005، كان مطلب ايران الأقصى هو في السماح لها بالاحتفاظ بـ 3 آلاف جهاز طرد مركزي، وادارة بوش كانت ترفض الابقاء على جهاز واحد، فحصلت ايران اليوم على ضعف هذا العدد، وعلى الحق بادارة دورة التخصيب بكاملها.
الا أن الاتفاق ينفّذ ما يدّعيه، وهو منع ايران من امتلاك القدرة على انتاج كمية يورانيوم مخصّب تكفي لتذخير قنبلة نووية خلال عام، وهو ما يستلزم قيوداً حقيقية على حجم برنامج التخصيب وكمية وقود اليورانيوم التي يمكن لايران مراكمتها. لم تخسر ايران قدرات مهمّة قائمة، بالمعنى التكنولوجي والبحثي، ولكن برنامج التخصيب قد جمّد، فعلياً، لمدة خمسة عشر عاماَ؛ فيما تم التخلي عن مجالات نووية أخرى كمفاعلات الماء الثقيل وانتاج البلوتونيوم (حتى الأبحاث النظرية حول استخدام الوقود النووي المستنفد ستكون ممنوعة بحسب الاتفاق). شرحت وسائل اعلام قريبة لايران، مثلاً، أن مفاعل آراك «سيتم اعادة التخطيط له وتطويره»، الا أن هذا «التطوير»، كما ينص الاتفاق، يعني أن اراك سيجهّز بمفاعل بحثي ضئيل القدرة، بينما قلب المفاعل الحالي «الذي يسمح بانتاج كميات كبيرة من البلوتونيوم... سيتمّ تدميره أو اخراجه من البلاد».
بالنسبة الى العلماء والطواقم العاملين في البرنامج النووي الايراني، اليوم هو يومٌ حزين، ولا مجال لمداراة هذا الواقع أو تلطيفه. هم سابقوا الزمن والظروف وتحملوا المخاطر، في السنوات الماضية، من أجل بناء برنامج بلادهم وتحويله الى واقعٍ لا رجعة عنه؛ وهم سيضطرون الآن الى كبح مشاريعهم وطموحاتهم والخضوع لنظام رقابة دولي مشدد.
اسرائيل والسعودية، وغيرهما من حلفاء اميركا في المنطقة، يحتجون على الاتفاق من منطلق أن خطر ايران، أصلاً، ليس نابعاً من برنامجها النووي، بل من سياساتها وخططها في الاقليم. والعقوبات النووية – بالنسبة اليهم – لم تكن الا طريقاً لمنع ايران من التعامل الحرّ مع العالم والنّموّ الاقتصادي والتوسع السياسي. لا تل ابيب ولا الرياض كانت تخشى ــــ واقعياً ــــ من ضربة نووية ايرانية، بل ان الايرانيين أنفسهم لم يكونوا يطمحون لاقتناء القنبلة، فهم هكذا ــــ من وجهة نظر نتنياهو ــــ يبيعون اميركا «الهواء» مقابل تحريرهم اقتصادياً، واطلاق يدهم في الساحة الدولية، وتخليص ايران من موقعها الحالي كدولة تخضع لعقوبات مجلس الأمن.
الا أن هذا المنطق لا يستقيم الا في حالة واحدة، وهي عدم حصول تصعيد أو مواجهة بين اميركا وايران في العقد القادم. ساعتها، يكون الاتفاق، فعلاً، مكسباً خالصاً لايران. امّا اذا ارتفعت التوترات بين البلدين في السنوات الآتية، فإن حسابات اميركا ستكون مختلفة تماماً عن اليوم: لم يعد هناك مخزونٌ من اليورانيوم بالأطنان (وهو مصدر القلق الحقيقي)، ولا مفاعلات تنتج البلوتونيوم، ونظام الرقابة والتفتيش الذي سيطبّق يضمن لواشنطن أن لا تصطدم بـ»مفاجآت نووية» تخبئها ايران، أو برنامج سريّ مواز.
هكذا تصير المحاذير الأميركية من التصعيد ضد ايران، أو ضربها، من مستوى مختلفٍ تماماً عن اليوم، فالقدرة النووية هي وازع لا يقلّ ردعاً عن امتلاك السلاح نفسه، وهو ما تخلّت عنه طهران ــــ وان بشكلٍ جزئي وقابل للعكس. السنوات المقبلة ستحكم على مغزى الاتفاق، وقد يتبين انه كان، حقاً، تضحية ضرورية مقابل مكسب أعمّ لايران، الا أن كلفة الصفقة هي ايضاً حقيقية، بالمعنى الاستراتيجي والعسكري؛ بل وقد تأتي أيام وظروف تجعل الموقّعين على هذا الاتفاق يندمون على فعلهم، ويحنّون الى أيام العقوبات.