نسيب حطيط*
يتعرّض الوجود المسيحي في لبنان اليوم للخطر وبشكل جدّي سياسياً واجتماعياً، دون الإعلان عن ذلك، علماً أنها ليست المرّة الأولى التي يكون فيها هذا الوجود مهدّداً بملاقاة المصير الذي وصل إليه مسيحيّو الدول المجاورة من فلسطين إلى العراق.
إذ سبق أن تعرّض مسيحيّو لبنان لخطر الزوال عسكرياً مراراً خلال الحرب الأهلية، خصوصاً عند بدايتها، حيث دارت رُحاها بين المقاومة الفلسطينية من جهة، والميليشيات المسيحيّة من جهة ثانية. وبعد الاجتياح الإسرائيلي عام 82، بدأ الوجود العسكري الميليشياوي المتمثّل بالقوات اللبنانية يتعرّض للانحسار, خصوصاً بعد معارك شرق صيدا وحرب الجبل ومعركة زحلة وحرب الإلغاء.
ومع خروج القوى المسيحية العسكرية من دائرة التأثير السياسي والمشاركة في هيكلية النظام مطلع التسعينيات، تدخّل الدور البابوي علناً في مسألة انتخاب رئيس للجمهورية، ولم يتوانَ الفاتيكان عن بحث مشاكل الوجود المسيحي في الشرق مع القيادة السورية مباشرة.
وكان قد سبق هذه المعارك أو تلازم معها، أو حتّى شكّل دافعاً وحافزاً لنشوبها وغطاء لها في بعض الأحيان، العاملان الأميركي والإسرائيلي بشكل مباشر حيناً، وغير مباشر حيناً آخر، إمّا بهدف توظيف الوجود المسيحي في لبنان رأسَ حربة للنفوذ الإسرائيلي المباشر، أو اتخاذه قناعاً وساتراً من أكياس الرمل المتحرّكة، وهو ما تبلور من خلال تأسيس جيش سعد حدّاد وجيش لحد فيما بعد، علماً أنه كان قد سبق ذلك، عرض أميركياً تلقّته الجبهة اللبنانية في عام 1976 يتعهّد تأمين نقل المسيحيّين إلى كندا أو دول أوروبية، سعياً إلى تفريغ المناطق المسيحيّة أمام مشروع توطين الفلسطينيّين.
وعمد الأميركيون والإسرائيليون من خلال دعمهم الإيجابي ظاهرياً، والخبيث ضمنيّاً، إلى إظهار المسيحيّين عملاء لإسرائيل والغرب، ومعادين للمحيط العربي، وذلك لقطع أواصر علاقات الأخوّة والعيش المشترك بين اللبنانيّين، ومحاصرتهم في مناطق كسروان وجبيل وما يحيط بهما، لفرض عزلة اجتماعية واقتصادية عليهم، ممّا يسهّل عملية اقتلاعهم في اللحظة المناسبة، بما يخدم المصالح الإسرائيلية المباشرة في توطين الفلسطينيّين في البلاد.
وفي قراءة سريعة للوجود المسيحي في الشرق، وخصوصاً في العالم العربي الذي هو مهد الرسالات السماوية، ومن بينها المسيحية، نرى أنّ الوجود المسيحي في فلسطين المحتلّة قد تقلّص إلى أقلّ من مئة وخمسين ألف مسيحي لا يؤلفون أكثر من اثنين في المئة من مجموع الفلسطينيّين واليهود.
ويبدو أنّ المشروع الأميركي الذي تتحكّم به الصهيونية العالمية، بمثابة إيديولوجيا منحرفة ومشوّهة لليهودية، تسعى عن قصد ودراية إلى القضاء على الوجود المسيحي، من خلال إلغاء الحاضنة الشعبية والكنسية للأراضي المقدّسة في فلسطين، مهد السيد المسيح، ليسهل اقتلاع الرموز المقدّسة من كنيسة القيامة أو كنيسة المهد في بيت لحم، واجتثاث الذاكرة العقائدية والتاريخية للمسيحيّين من الشرق بأكمله.
أمّا في العراق، فهذا الوجود انحسر نتيجة الاحتلال الأميركي من مليون وستمئة ألف مسيحي، إلى أقل من أربعمئة ألف، لا يؤلفون أكثر من واحد ونصف في المئة من مجمل العراقيين. وكان هروب المسيحيين العراقيين من بلادهم نتيجة طبيعية لتقاعس الاحتلال الأميركي في حمايتهم.
ومع أن هذا الوجود في مصر المتمثّل بالأقباط هو أكبر عدداً من لبنان، غير أنّ تأثيره السياسي شبه معدوم، لاعتبارات داخليّة.
ويبقى الوجود المسيحي المؤثّر سياسياً محصوراً في لبنان من خلال الإمساك بسدّة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي، وهي المؤسّسات التي تمثّل رأس النظام السياسي وقيادة القوات المسلّحة وعالم الاقتصاد والمال.
ومن هنا نفهم أسباب إمعان الإدارة الأميركية في ضرب موقع رئاسة الجمهورية المارونية في لبنان بصفتها رمزاً للشراكة المسيحية، وللتمثيل المسيحي في النظام، وإعطاء الصلاحيات للحكومة ومجلس الوزراء، الذي أثبتت تجربة السنتين الأخيرتين، أنه يمكن الإمساك بقراراته من جانب جهات أجنبية بعدما تجاوزت الحكومة جميع التوازنات الطائفية التي يكفلها الدستور والميثاق الوطني.
وبما أن الوجود المسيحي في لبنان، نتيجة الهجرة والحروب، وانخفاض معدّلات الإنجاب بات لا يتجاوز نسبة الثلاثين في المئة مقابل سبعين في المئة للمسلمين من مجموع المواطنين، يضاف خطر جدّي إضافي من المزيد من تذويب الوجود المسيحي من جرّاء محاولات دمج الفلسطينيّين بطريقة غير مباشرة وهادئة في المجتمع اللبناني، ويبلغ عددهم نحو أربعمئة ألف. من شأن ذلك كله تحويل المسيحيّين إلى أقلية لا تتجاوز الـ 15 في المئة من مجموع السكان.
وتحت ذريعة ثقافة الأكثرية والديموقراطية غير التوافقية التي تشجّع على اعتمادها الإدارة الأميركية أخيراً، يجد المسيحيّون أنفسهم مهدّدين بفقدان مكاسبهم السياسية التي تعطيهم رئاسة الجمهورية والمناصفة في الوظائف، مما قد يؤدّي إلى تشجيعهم أو دفعهم إلى مزيد من الهجرة، ليجدوا مصير إخوانهم من المسيحيين الفلسطينيّين والعراقيّين.
أمام خطر كبير من شأنه ضرب قيم التعايش والتنوّع التي عُرفت عن لبنان، يُطرح السؤال: هل يستيقظ الحكماء من المسيحيّين من رجال دين وساسة ومثقّفين، للوقوف في وجه هذا المشروع؟
وفي هذا السياق، يجدر التأكيد أنّ على الحكماء من المسلمين والوطنيّين، أن يساعدوا ويتصدوا بدورهم لإفشال هذا المشروع، لأنّ في ذلك حفاظاً على لبنان بمسيحيّيه ومسلميه، والبديل لن يكون سوى ضياع «لبنان الرسالة» والتعايش، وضياع فلسطين ـــــ القضية، إذ في حال نجاح التوطين في لبنان، سيؤُكَل الثور الأبيض كما أُكل الثور الأسود.
* سياسي لبناني