معمّر عطوي *
بدت المؤسسة العسكرية التركية، عقب وصول الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية «الإسلامي» عبد الله غول إلى منصب الرئاسة، عاجزة عن إحداث أي تغيير في المشهد السياسي، حيث شهدت البلاد سقوط آخر معاقل العلمانية، وخضعت هذه المؤسسة التي نصّبت نفسها منذ وصول العلماني المتطرّف، مصطفى كمال أتاتورك في عام 1924، للواقع الجديد، بعد محاولات عديدة، منها مقاطعة كبار الضباط لاحتفالات ومراسم رسمية، وذلك حين زار قائد الجيش يشار بيوكانيت الرئيس غول في قصره وهنّأه بمنصبه الجديد.
فالجيش «القوي» بات غير قادر على تنفيذ انقلاب مماثل لما حدث مع أربع حكومات سابقة منذ عام 1960، كما إنه غير قادر على قبول جلوس «إسلامي» على «عرش» مؤسس «تركيا الحديثة» أتاتورك، أو حتى مجرد التسامح تجاه حجاب السيدة الأولى خير النساء، التي غابت عن احتفالات التنصيب مراعاة لقوانين صارمة في هذا الشأن.
ولم يمنع هذا الوضع الذي كرّسته نتيجة الانتخابات التشريعية في تموز، مع الفوز الكاسح لحزب العدالة، والذي وصل إلى أوجه في 28 آب، حين فاز غول بالرئاسة (بعد دورتين لم يتوافر فيهما النصاب)، قائد الجيش، من هزّ العصا في وجه الحزب الحاكم، بإشارته إلى «بؤر الشر التي تحاول بشكل منهجي قضم البنية العلمانية للبلاد»، عقب تأكيده أن «القوات المسلحة لن تقدم تنازلات، ومن واجبها إبقاء الجمهورية التركية دولة علمانية واجتماعية أساسها سلطة القانون».
صحيح أن منصب الرئيس هو منصب فخري، لكنه يتمتع ببعض الصلاحيات التي تسمح له بالتأثير على مصير قوانين جديدة، وعلى أداء مؤسسات رئيسية. بيد أن العوامل التي أدت إلى سكوت الجيش عن هدم هيكل الدولة فوق رؤوس الإسلاميين، هي التي جعلت القبول بتيار يحمل شعار التدين في السلوكيات الفردية من دون أروقة السلطة، أمراً واقعاً لا مناص منه، حتى لو كان في الوقت نفسه يعيد للسلطنة السابقة وجهها الإسلامي.
لعل أول هذه العوامل، هي الشعبية الكبيرة غير المسبوقة، التي حصل عليها غول حين فاز بأصوات 337 نائباً من أصل 550 هم أعضاء البرلمان.
أمّا العامل الثاني، فيتمثّل في النمو الاقتصادي خلال السنوات الخمس التي حكم فيها حزب العدالة والتنمية. وهنا لا يخفى دور وزير الخارجية الجديد، علي باباجان، الذي تمكن بجديّته ودبلوماسيته خلال توليه حقيبة الاقتصاد في حكومة رجب طيب أردوغان السابقة، من تنفيذ برنامج يمنح صندوق النقد الدولي بموجبه أنقرة مهلة لتسديد ديونها، في إنجاز هو الأول من نوعه بعد 17 برنامجاً مماثلاً انتهت كلها بالفشل.
ولعلّ هذا ما دفع 85.2% من الناخبين إلى التصويت للحزب الحاكم في 22 تموز، حسبما أفادت استطلاعات الرأي، ولا سيما أن الاقتصاد الوطني نما بمعدل 7% سنوياً منذ تسلّم الحزب للسلطة عام 2002. كذلك تضاعف نمو الناتج المحلي الفردي ليصل إلى حوالى 5500 دولار أميركي في السنة، فيما سجلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة رقماً قياسياً بلغ 19.8 مليار دولار العام الماضي.
وربما كان العامل الأكثر أهمية الذي دفع 35.9% من الناخبين، لاختيار «العدالة»، هو الحاجة إلى مكافحة الفساد، وخصوصاً أن قادة حزب العدالة لم يُعرف عنهم التورط في قضايا اختلاس وما شابه.
ولعل النجاح اللافت في تقدم مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، له الدور الأكبر في تعزيز مواقع حزب العدالة، وخصوصاً أن الفضل في هذا الملف يعود لغول وباباكان الذي شغل منصب كبير المفاوضين الأتراك في الملف الأوروبي إلى جانب حقيبة
الاقتصاد.
لقد حاول حزب العدالة طمأنة العلمانيين عبر ضمِّه في صفوفه وفي حكومته الجديدة، شخصيات غير مرتبطة بالإسلام السياسي، ليؤكد أن موقعه هو يمين الوسط. ولم يبتعد الحزب عن المزاج التركي العام حين وافق على شنّ حرب على الأكراد في مناطق جنوبية محاذية للحدود العراقية، بل اشترك في الحملة الخطابية على المتمردين الأكراد، وأكد عدم اعتراضه على شن هجوم ضد معاقل حزب العمال الكردستاني في جبال القنديل على الحدود مع العراق، في تماهٍ واضح مع الحركات القومية التركية، التي لعبت ورقة «الخطر الكردي» خلال حملة الانتخابات التشريعية.
طبعاً، لا تعني هذه التطورات اطمئنان المؤسسة العسكرية إلى عدم مجيء اليوم الذي سيرفع فيه حزب العدالة شعار «الإسلام هو الحل»، بل ستبقى هذه الظاهرة الحديثة، تحت مراقبة الجيش الساخنة، ولن تفوّت المؤسسة العسكرية بدعم من الأحزاب العلمانية والقومية، فرصة لقمع أي إجراء قد تراه مخالفاً لمبادئ العلمانية، حتى لو واصلت أميركا ودول الاتحاد الأوروبي ترويج هذا النموذج من الإسلام «المعتدل» الذي حافظ على علاقة جيدة مع إسرائيل، ودعم حركة حماس في الوقت نفسه.
ربما كانت هذه الإنجازات التي حقّقها حزب العدالة والتنمية، ليست وحدها السبب الأساسي لسكوت العسكر، ذلك أن البديل عن هذا السكوت «القسري» قد يكون حرباً أهلية، ربما تسهم في نسخ حزب العدالة على صورة أحزاب إسلامية عديدة لجأت إلى العنف للدفاع عن مواقعها في السلطة، بعد ان جرى استبعادها عن الخيار الديموقراطي.
* من أسرة «الأخبار»