ناجي صفا *
أرى أنّ الدكتور أسعد أبو خليل في مقالته الأخيرة قد قسا في أحكامه وفي بعض مقارباته، وعمّم في بعضها الآخر، ما ألحق ظلماً واضحاً بالرفاق الذين ما زالوا متمسّكين بقناعاتهم الفكرية والثورية ولم يتحوّلوا إلى «حريريّين» رغم المغريات الكبيرة التي أُغدقَت عليهم، ومنهم المرحوم جوزف سماحة على سبيل المثال.
ليس صحيحاً أنّ نصير الأسعد وتحوّلاته هي المعيار أو المقياس الحقيقي والفعلي لمناضلي منظّمة العمل الشيوعي، ولا سيما أولئك الذين تركوا العمل التنظيمي وما زالوا متمسّكين بقناعاتهم الفكرية والثقافية والسياسية الوطنية، وأنا واحد منهم.
لن أتعرض لاتهامك لمحسن إبراهيم في كلّ ما يتعلّق بالحقبة الناصرية والحقبة العرفاتية وإن كنت أرى في بعضها اتهامات قاسية، إلّا أنّني ربما أشاطرك الرأي في ما يتعلق بوليد جنبلاط وأمين الجميل وصولانج أيضاً، فذلك أمر شخصي يتعلّق بصاحب الشأن وهو المعنيّ بالردّ على الاتهامات من عدمه، لكن سأردّ على الاتّهام الذي أطلقته «بتفريخ منظّمة العمل الشيوعي لهذا العدد الهائل من اليساريين السابقين الحريريّين»، متخذاً ربما من تجربتَي نصير الأسعد وعدنان الزيباوي مثالاً لتوكيد صدقيّة نظريّتك. أمّا بالنسبة إلى عدنان الزيباوي، فمن المعروف أنّه والحريري كانا رفيقي صبا وأنه من المعروف أن أوّل تذكرة سفر لرفيق الحريري إلى السعودية دفع ثمنها الزيباوي. وقد طغت نظريّة ردّ الجميل والصداقة وحقبة الصبا ومعها بضعة ملايين من الدولارات على الانتماء الفكري والسياسي، لكن ما لا يمكن فهمه هو التحوّل الذي طرأ على نصير الأسعد، ولا سيّما أنّه لم يغنم بالقدر الذي غنمه الزيباوي، وقد عاتبته ذات مرّة على هذا التحوّل فقال لي إنه جاع وعائلته دون أن يتطلع إليه أحد. بالتأكيد هذه الذريعة ليست مقنعة أو مبرّراً كافياً لهذا التحوّل. ربّما كان ثمّة خلل في الصلابة الفكرية والسياسية، وهذه الحالة يمكن أن تحدث لكثيرين، وقد حدثت فعلاً لمفكّرين كبار في الاتحاد السوفياتي. أوَليس الياس عطا الله أيضاً أحد تجلّياتها، فهل نطلق حكماً على الحزب الشيوعي نتيجة ذلك؟
أما في ما يتعلق بالنقد الذاتي الذي أطلقه محسن إبراهيم على تجربة الحركة الوطنية في ذكرى تأبين جورج حاوي، فقد تناولته شخصياً بالنقد في مقالة نُشرت في مجلة «النداء» تحت عنوان «جلد الذات الخاطئ في التوقيت الخطأ» في الوقت نفسه الذي نشرت فيه مقالتك حول الموضوع نفسه في صحيفة «السفير»، وكانت قد انتظرت «الرفاق السابقين» في منظمة العمل الشيوعي أن يبادروا إلى مساجلة ابراهيم في ما أعلنه من «نقد ذاتي»، وكان بعضهم قد أسرّ إليّ بتلك الرغبة، كعضو سابق في منظمة العمل الشيوعي وجزء من التجربة التي تعرّضت للنقد وجدت من حقّي، لا بل من واجبي الدفاع عن تجربة ما زلت أعتبرها مضيئة رغم الأخطاء والخطايا التي يمكن أن تكون قد ارتُكبَت في الممارسة (لا مانع من نقدها)، إنّما ليس في الرؤية أو الاستراتيجية كما جاء في كلام ابراهيم. وقد ذكرت فيها أنّه لا مانع من فتح نافذة نقاش جدّي حول التجربة التي خاضتها الحركة الوطنية اللبنانية، وربما «نقد ذاتي»، لهذه التجربة وما اعتراها من أخطاء سواء في الأداء أو الرؤية، علّ ذلك يشكّل مقدّمة لإضاءة يُستفاد منه في مقاربة اللحظة الراهنة الشديدة الشبه بالإرهاصات التي شهدناها عام 1975 والتي أنتجت الحرب الأهلية في لبنان، لكنّك وقعت في الخطأ نفسه من خلال تسفيه هذه التجربة وتسليط الضوء على الزوايا المعتمة فقط فيها.
لا بدّ من التسجيل أنّ النقد الذاتي هو فعل شجاعة أدبية يقوم بها الفرد أو المجموعة لتقييم أدائهما، وهي شجاعة افتقر إليها كثيرون على ضفّتي الصراع، إلا أنّني أخالف توصيف السيد محسن إبراهيم بأنّ «الحركة الوطنية قد ذهبت بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلّحة للقضية الفلسطينية فوق ما يتحمل، طاقة وعدالة وإنصافاً. أخالفك الرأي بأنّ تجربة الحركة الوطنية كانت مجرّد أموال وقصور منيفة، ففي الحكم الأوّل افتئات على الحركة الوطنية التي صُنِّفَت في موقع المبادر إلى افتعال الصراع، لا في موقع المتلقي له. وفي الحكم الثاني، افتئات على تراث الحركة الوطنية السياسي والنضالي الذي سبق أن أعلنّا موافقتنا على نقده نقداً موضوعياً، لا تشفّياً، ذلك أنّ العديد من قادة وكوادر الحركة ما زالوا عاجزين عن تأمين قوت يومهم، وليس لديهم قصور أو حتى شقق يملكونها.
أمّا عن قول السيد محسن ابراهيم بأنّ «الحركة الوطنية استسهلت ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديموقراطي»، فهو قول يجافي الحقيقة، وكان يصحّ ربّما فيما لو كانت الحركة الوطنية هي من خطّط أو من أراد الحرب الأهلية، وأنّها لم تكن ضحيّة لهذه الحرب كبقيّة اللبنانيّين، فالمؤامرة المرسومة بعناية لا تزال هي ذاتها اليوم لإحداث تغييرات جيوسياسية واستراتيجية في المنطقة يمكن أن يكون الشعب اللبناني وقوداً لها. المفارقة أنّني كثيراً ما سمعت شخصيّاً محسن إبراهيم يقول «كنّا نفضّل الاحتكام إلى قوانين الصراع الديموقراطي، لكن الطرف الآخر يبدو مصرّاً على ركوب مركب الحرب الأهلية. فالحرب الأهلية ببعدها الطائفي تعمل في غير مصلحة القوى الديموقراطية والعلمانية لأنّها تؤخّر عملية التطوّر الديموقراطي». كان فعل الحركة الوطنية ردّ فعل على مخطّط مبرمَج، وللأسف يجري تشويه هذا التاريخ كلّ يوم على الشاشات سواء من قبل الفريق الآخر أو من أولئك الذين سقطوا أو التحقوا بالمركب الأميركي بحثاً عن موقع أو فائدة ما. يشهد على ذلك أنّ أكبر طرف في الحركة الوطنية لم يكن يملك يوم تفجّر الحرب الأهلية أكثر من بضع بنادق (سيمينوف) وليس باستطاعتها حمل مثل هذا المشروع، بينما الطرف الآخر كان قد بدأ بتجهيز نفسه لهذا المشروع منذ أعوام، واستفاد من موضوع (خدمة العلم) ليقوم بتدريب وتسليح عناصره وكوادره، وتبيّن لاحقاً أنّه أحسن استغلال معسكرات تدريب خدمة العلم.
إنّ الرغبة في اختصار الطريق إلى التغيير عن طريق ركوب الحرب الأهلية كما جاء في كلام محسن إبراهيم توصيف يفتقر إلى الدقّة. كان يصحّ هذا الكلام (نسبياً) لو أنّ البرنامج المرحلي للحركة الوطنية قد صدر قبل الحرب الأهلية، ولو أنّ الحرب الأهليّة حدثت كمدخل لإنجاز هذا البرنامج. لكنّ العكس هو الصحيح، فقد جاء البرنامج المرحلي بعد تفجير الحرب الأهلية كردّ على طروحات الفريق المقابل، وليسوّغ مواجهة المشروع الانعزالي والاستئثاري ولإعطاء الصراع بُعده الداخلي بعدما جنح الفريق المقابل لتوصيف الحرب بـ«حرب الآخرين، وحرب الغرباء على أرض لبنان».
إنّ رغبة التغيير كانت موجودة دائماً، لكن هذه الرغبة لم تكن وليدة لحظة اندلاع الحرب، كانت موجودة قبل ذلك. يشهد على ذلك الصراع الطبقي ببعده الاجتماعي قبل الحرب بسنوات (عمّال غندور، عمّال التبع في الجنوب...)، وإذا شكّل طرح التغيير من قبل الحركة الوطنية أحد الردود على طروحات الفريق المقابل، فذلك كان لأجل عدم تغييب البعد الداخلي من الصراع وانتصار مقولة الفريق الآخر (حرب الآخرين). وإذا أردنا رصد جذور المؤامرة التي ما زالت مستمرّة على لبنان بشكل خاص، والمنطقة بشكل عام، فيمكن قراءة التحوّلات التي شهدتها المنطقة العربية منذ بدء إرهاصاتها عام 1948 تاريخ إنشاء دولة إسرائيل، مروراً بالتحوّلات الأخرى التي شهدتها منذ عدوان 1956 ومنع التنمية وقرار عبد الناصر بالتحوّل الكبير باتجاه الشرق على إثر رفض البنك الدولي تمويل بناء السدّ العالي إلّا بشرط مصالحة كما ذكر محمد حسنين هيكل، وقيامه بتأميم قناة السويس، ودعم الثورة الجزائرية، ومؤتمر باندونغ... فكان القرار الإمبريالي بإسقاط كلّ ما هو ثوري يمكن أن يواجه المشروع الصهيوني الاستعماري، إلى مشروع المحافظين الجدد في تشكيل «شرق أوسط جديد» تكون فيه السيادة لإسرائيل.
إنّ مجرّد وجود حالة ثورية في لبنان هو وصفة أميركية إسرائيلية لحرب أهلية، ذلك أنّ البناء الهشّ للنظام الطائفي اللبناني واختلالاته البنيوية التي أثبتت عبر التاريخ أنّه بحاجة دائمة إلى رعاية أو وصاية خارجيّتين، يشكّل عامل الجذب للمؤامرة، ولعلّ ما يجري الآن على الساحة اللبنانية يؤكّد أنّ هذا الواقع ما زال معشّشاً في بنية البلاد.
إنّ اختلال التوازن الوطني لمصلحة أرجحية طائفية معيّنة كفيل دائم بفتح الأبواب على مصراعيها أمام احتمالات الصراع والتدخّل الخارجي. بالتالي لم تكن الحرب الأهلية خياراً تبنّته الحركة الوطنية اللبنانية للوصول إلى التغيير، بل كانت مجرّد ردّ فعل على خيارات تبنّتها القوى المقابلة. فالقوى الطائفية عبّرت عن رغبتها بالحفاظ على امتيازاتها، ولو كان ذلك بالتحالف مع الشيطان كما يعيد التاريخ نفسه الآن. فالمطلوب اليوم رأس المقاومة التي استطاعت أن تهزم إسرائيل في حرب تموز العام الماضي. يستدعي هذا الواقع ليس تقديم النقد لتجربة الحركة الوطنية، وإنما إنتاج حركة وطنية جديدة لمواجهة المشروع الأميركي بتجلياته الجديدة.
* عضو سابق في منظمة العمل الشيوعي