تقليدياً، يقوم بنك الاحتياط الفيدرالي (أي المصرف المركزي الأميركي) بـ «خلق المال» أو زيادة الكتلة النقدية بطريقتين: إمّا طباعة النقد الذي يدخل في التداول العام، أو شراء سندات خزينة حكومية. مع أن النقد المطبوع وثمن السندات تسجّل، نظرياً، في خانة «المستحقات» في حسابات البنك الفيدرالي، الا أنّ المصرف لا يملك هذه الأموال ولا يستدينها من أحد، بل يقوم ببساطة بـ «خلق» أرصدة الكترونية ووضعها في حسابات المصارف التي اشترى منها السندات؛ أي ما يوازي تماماً طبع المال.
هذه التقنيات موجودة ومعتمدة من أغلب المصارف المركزية في العالم، وهي الطريقة التي يتمّ بها توسيع الكتلة النقدية حين يكون هناك طلبٌ على العملة أو لمحاربة الانكماش (أقله منذ انتهاء عهد التغطية الذهبية وتحويل العملة الى سلعة سوقية). المصرف الفيدرالي، مثلاً، كان يحتفظ على الدوام بكمية من السندات الحكومية تتراوح بين الـ 600 والـ 800 مليار دولار، يزيدها حين يكون هناك حاجة في السوق لمزيد من الدولارات، ويبيع بعضها حين يكون الهدف سحب المال من السوق (فيأخذ المصرف نقداً من البنوك مقابل السندات، ويخرج هذا المال من التداول). الا انّه، في السنوات الماضية، طرأ تغيير جلل في حجم وطبيعة هذه العمليات.
مع اطلاق سياسات «التسهيل الكمي» عام 2008، بدأ المصرف الفيدرالي بشراء أدوات مالية لم يكن يستحوذ عليها في السابق، وبكميات هائلة. في الماضي، كان المصرف يشتري، حصراً، سندات حكومية قصيرة الأمد وكانت جزءاً متواضعاً من المستحقات المترتبة عليه (أغلب المستحقات كانت عبارة عن النقد المطبوع الموجود في السوق). ابتداء من عام 2008، بدأ المصرف الفيدرالي بشراء سندات الدين الحكومي المؤجلة (عشر سنوات أو أكثر) وسندات عقارية للقطاع الخاص بآلاف مليارات الدولارات، وباستعمال المال «الوهمي» الذي يصدره المصرف المركزي.
هنا، تلاقت حاجتان: حاجة الدولة الأميركية الى مزيد من الاستدانة (كان حجم الدين العام الأميركي 5 تريليونات دولار عام 2000، وهو اليوم أكثر من 16 تريليوناً)، وحاجة السوق العقارية والمصارف الى سيولة وطلب على سنداتها الضعيفة. عام 2008، كانت مستحقات ــــ وموجودات ــــ المصرف المركزي الأميركي أقل من ألف مليار دولار، وهي الآن تقارب 4.5 تريليون دولار. جلّ هذه الزيادة سندات حكومية وعقارية اشتراها المصرف واحتفظ بها، وما زال يشتريها بكثافة. وقد صارت هذه الأموال، التي خلقها المصرف في سنوات قليلة، أكثر بكثير من كل النقد المطبوع والمتداول بالدولار في العالم. ولو تمّ تحويل هذه الاحتياطات المصرفية (أغلبها ما يزال مودعاً لدى البنك الفيدرالي) الى قروض في السوق، لفاقت حجم الكتلة المالية بأسرها، فكلّ دولار ايداع لا يساوي دولاراً على شكل قروض، بل سبعة أو ثمانية.
عادةً، تتجنب المصارف المركزية طبع المال بلا حساب، أو في غياب طلب يبرر الزيادة، لأن توسيع الكتلة النقدية يعني كساد الطلب على العملة، وخسارة قيمتها، ورفع معدلات التضخم والفائدة؛ فلماذا تتمكن اميركا من «خلق المال» بهذا الشكل، مع ابقاء الفوائد منخفضة، والعملة قوية، وهل هي قادرة على الاستمرار في هذا الطريق بلا نهاية؟ لهذا الحديث بقية.