فليعذرني «الربيع العربي» وليعذرني محبوه وأتباعه ومناصروه، وليعذرني «ثواره» في كل الساحات سواء تلك الصاخبة بالهتافات والضجيج، أو تلك التي تحولت الى مواقع حروب واقتتال بين أهل الوطن الواحد وسالت فيها الدماء ونحرت فيها الرؤوس ومُثِّلَ بالأجساد الآدامية بعقلية وحوش البراري غير المروضة.ليعذرني أيضاً مثقفو «الربيع العربي» ومنظروه وإعلاميوه لأنهم سكبوا حبراً كثيراً على الأوراق البيضاء وقضوا الساعات الطوال عبر شاشاتهم التي لا تنام مطلقاً ولا تتوقف عن الكلام كأنها آلهة في السماء لا ينقطع عنها الإلهام.

وسأقدم اعتذاري أيضاً لأولئك الذين وقفوا مثلي - وهم كثيرون بحسب ما أعتقد - مشككين ورافضين هذا «الربيع» مفضلين رجمَه كلَّ يومٍ إلى أن تنفق جثته وينضبَ عن شرايينه كلُّ وقود النفط الأسود والقار والمازوت وتقطع عن خياشيمه وغلاصمه الكبيرة التي لا تشبع كلّ مصادر الغاز من جزر الرمل المشبوهة المدججة بكل قواعد السلاح المستأجر وأبنية الديمقراطية الشاهقة.
ليعذرني الجميع في هذا اليوم وهذا الوطن، موالين ومعارضين، الثوار وحماة الديار، من سقط منهم لأجلِ الوطن أو الذي مازال على المتراس، لأني وفي بداية ربيع السنة الجديدة «2015»، وبعد مرور ما يقارب الخمس سنوات مما حدث في سوريا من حراك وثورة و»ربيع»، بعد كل ذلك وبعد هذا الوقت الطويل وبعد كلِّ هذه الشعارات الحماسية واللجوء إلى الله والتمترس به، قبل وأثناء وبعد جولاتهم في كلّ الفنادق وكلّ العواصم طالبين المساعدة منهم، وبعد شلالات الدماء المسفوكة على مذبح الحرية،
سأقدم اعتذاري لهذه «الثورة» وسأقولها متأخراً جداً جداً جداً: أنا آسف.
وسأضطر ككلِّ طغاة العالم المستبدين إلى أن أستدرك خطيئتي الكبرى وسأقول كما قالها «بن علي» دكتاتور تونس وطاغيتها في يوم حكمه الأخير قبل أن يستقل طائرته الى ملاذ الطغاة الخائفين: «الآن فهمتكم... نعم الآن فهمتكم... أي سيدي الآن فهمتكم».
ولتعذر «الثورة» جهلي وليعذر «الثوار» ما أصابني ومَنْ على شاكلتي من يباسة عقل وتناحة مخ وقنوط في الاستدراك والاستقراء والتحليل، ولكيلا تضيع الأفكار بين أكوام الكلمات والحروف وتختفي المقاصد بين السطور، سأطرح الأمر ببساطة تصل حدَّ البداهة العقلية المبسطة التي لا تحتاج إلى دليل أو إلى برهان عبر المثال التالي:
(قام أناس وقالوا: نحن نريد الحرية. فانبرى أناسٌ ليقولوا لهم: الحرية عندكم كافية وزيادة فلا تخربوا بيوتكم أو تنغصوا عيشكم الوادع المطمئن بهذه الشعارات الزائفة! لكن أطرافاً من الفريق الأول أصرّوا على أنهم يحتاجون إلى الحرية أكثر واستمروا في إطلاق الشعارات وسلكوا كلَّ السبل وهم يطلبونها).
لا يمكن لعاقلٍ يتناول هذا المثال البسيط إلا أن يتعاطف مع من يطلب الحرية، بغض النظر عن أنها قد تكون حصاناً خشبياً لدخول كل الغرباء أو نغماً رائعاً يردده كلُّ السفلة وقاطعي الطرق، ونحن ـــ المساكين أصحاب العقول المقفلة من الطرف الآخر ـــــ نردد اسطوانتنا المشروخة ذاتها:
(أنتم سادة ولست عبيداً، لم تكونوا كذلك في يوم من الأيام فلا تكونوا الآن، بلدكم سوريا، موطن الأسياد والشجعان ومن سوريتكم تخلّقت السيادة وتترسّمُ خرائطُ الأوطان والبلدان).
لا يمكن إلاّ أن نتوقف قليلاً لنفهم تلك الشخصيات التي قضت أعمارها في هذا البلد أو خارجه، لتصل بقناعة راسخة لا تخفيها على أحدٍ وتشهد بها وتطلقها علانية عبر كلِّ المنابر والشاشات، أنها لم تكن إلا عبيداً مسلوبي الإرادة، فاقدي الكرامة، ولم تكن مسيرة حياتهم إلاّ رحلةَ إذلالٍ وإجبارٍ وإكراهٍ تحت أقدام الطغاة المستبدين الظلمة أعداء الله والوطن.
أشخاصٌ مثل هؤلاء يحتاجون منا الشفقة والرحمة والنظر إليهم بعين التعاطف والتفهم والإشفاق لا اللوم والمعاتبة والقسوة في الحكم والتصنيف. ليخيلَ لأحدنا أنه اضطر في بعض أيامه لقبول ذلٍ أو اكراهٍ أو اجبارٍ في عملٍ أو مهنةٍ، أو ساق له الزمن أياماً مغمّسةً بالقهر والتسلط، لا بد أنها ستكون رحلة مضنية وحياة قاسية.
هل يبزُّ ذلَّ حياةِ العبيدِ ذلٌّ آخر؟!!! وهل هناك أصعب وأقسى من حفلة تكاذب ونفاق تستمر لعمرٍ كاملٍ، لتكتشف أنك في أواخر عمرك وعندما تفرُّ الى البلاد البعيدة أنك لم تكن إلاّ كاذباً منافقاً، عبداً ذليلاً.
وعند التقاط هذه النقطة النفسية المفصلية في تفسير عقلية المعارضين والثوار ستجدُ أنك قد ملكت النورَ الكاشف لتحليل كل ما حدث ويحدث في «ثورات العرب» التي امتطاها الزنادقة ووطّأوا بلادَ العرب للغزاة الجدد أعداء الأمة التاريخيين.
- لا بد أن عبداً ذليلاً هو من تقرب وارتقى مناصب السلطة، ووجد أن أفضل طريق له هو النفاق والتذلل ومسح الجوخ ودفع الرشى فاتبعه سبيلاً لا يفارقه، فوصم البلاد والعباد - عندما حانت لحظة القفز من المركب - أنهم في ذلٍّ كذلِّه الذي كان عنوان حياته.
- ولن يكون إلاّ مثيلُه من استجدى المناصب من كل عواصم الدنيا، وحضر بازارات الكرامة المهدرة والدم السوري في كل المؤتمرات، واضطرته «ظروفه الثورية» إلى أن يتقبل شتائم وإذلال السفراء الغربيين وعاهات الأعراب المرضى بالغاز أو بالاهتزاز.
- لا بد أن شعوراً متعاظماً من العبودية والإذلال يلزم المرء ليقف أمام صاحب الأصفار أو جانب برميل الغاز أو صاحب الصندل الديمقراطي،
- لم يمتلك كرامةً قط، ولم يلامس الشرف جسده ذلك الذي فتح باب حُرَمِ بلاده الجميلة المشرفة الطاهرة لكل الآتين من الصحاري ومستنقعات «الفكر العربي» وفيافي الربع الخالي أصحاب الفتاوى الضالة، فاستباحها الأغراب فسُبيت الأعراض وانتهكت الحرم وسفكت الدماء،
-لا بد أنهم فقدوا الكرامة الوطنية والاستقلال عن مأثور قيم السوريين الأجداد والأحفاد، ولم يجدوا شيئا مهماً ذا قيمةٍ ليخسروه، لكي يرضوا أن يستقلوا مركباً تائهاً بين عواصم البلدان يشاركهم فيه كلُّ الأعداء والمرتزقة والحرامية وقاطعي الطرق والأعناق ليصلوا جميعاً إلى جزيرة كنزهم الموهوم، وليحصلوا على جزء من وطنهم الممزق وحريتهم المزعومة بأي طريقة وبأي ثمن.
سنحتاج - أصدقائي - إلى مجلدات لوصف ذلِّ وعبودية أصحاب «الثورات العربية» وسنحتاج إلى مجلدات أكبر لوصف غبائهم وتخلفهم وجهلهم وضلال السبل التي سلكوها للتحرر.
الحقَّ الحقَّ أقول لكم أيها الثوار:
الحرية ليست حقنة شرجية كتب عليها تدخل حصرياً بيد الناتو.
الحرية ليست بأن تذبح أخاك بمدية الغريب.
الحرية ليست أن تملأ الدنيا شعارات حماسية وشتائم للطغاة وأنت تسلم رقبتك وبيتك وعرضك ووطنك للغريب أو المعتدي.
لا يمكن لكل دواوين شعر الحرية والحماسة أن تغسل عبداً من مذلته، أو تعتقه من عبوديته، ولا تستطيع أفخر قناني العطر الأوغاريتي السوري أن تجمل من اختار صابونه من مخلفات زيوت النفط وبراميل غازاته الصحراوية.
الحرية والانعتاق من الاستبداد لا يكونان بظنك أنك أصبحت حرّاً طليقاً، ووطنك أرضٌ مستباحة وأعناقُ بني وطنك بيد طلقات الجهل العابرة لكل التاريخ، أو تتركهم نهباً لأحقاد التاريخ أو الطامعين بعودته ثانية في مشاريع ماضوية ظلامية.
الحرية لا تتحقق بالقفز إلى قطار أميركي آفلٍ يلملم سككه القديمة من المنطقة إلى غير رجعة، مخلفاً وراءه فقط قاطعي التذاكر وعمال التحويلة.
أخيراً وبالمحصلة، ولأن الجاهل والمُكره والمغصوب والمجنون والعبدُ الذليلُ ليس لهم رأيٌ معتبرٌ ولا يُعتدُّ به في مجالس الأحرار، الأحرار الذين عاشوا حريتهم في كل دقيقة، وفي كل لحظة، ولم تكن الحرية عندهم طقساً شفهياً أو لغوياً في مفردات حياتهم، بل واقعاً ملأ كيانهم فأوصلهم لذرى تعانق السماء، الأحرار الذين لا تهمهم السلطة سواء وقعت عليهم أو وقعوا فيها، أو راقبوها من بعيد، أو الذين لم تخالطهم يوماً، فبقوا على ثوابتهم الأخلاقية والوطنية، ولم يفقدوا خلال ذلك ذرةً واحدة من كبريائهم وعنفوانهم، فمَنْ في السلطة ليسوا شياطين ومَنْ في المعارضة ليسوا ملائكةً، وأعيننا نحن من تصبغهم بهذه الألوان، وتصرفنا نحن بذاتنا من يقرر في معظم الأحيان شكل وكيفية الرد المقابل.
ولأن الأحرار الحقيقيين يظلون على الدوام ضد الظلم والقهر والاستعباد، فاسمحوا لي بأن نكفَّ عن تخوينهم وأن نجد لهؤلاء العذر تلو العذر، وأنصح بأن تقدم لهم الحرية بحسب الطلب وبمقدار كافٍ لتستوعبهم حفرهم الصغيرة وحجرات جماجمهم، والطرق الشاذة لتفكيرهم، ولندعُ الله في عليائه أن يقرَّ عقولهم وقلوبهم بالسكينة والطمأنينة، وأن يجدوا ضالتهم المفقودة الضائعة منذ عقود طويلة من يوم مولدهم؛ «الحرية».
وهي ما يعدُهم بها الشعب السوري في ثورته الحقّة ضد التوحش العولمي والتغطرس الغربي بعد القضاء على ربيعهم المسخ وحصاده الدموي المر.
*كاتب سوري