نسيب حطيط*
عندما أعلنت الإدارة الأميركية عبر وزيرتها رايس أن لبنان يشكل «المتراس الأمامي للمشروع الأميركي» اعترفت صراحة بأنه يمثل المتراس الأول للمشروع المقاوم للسيطرة الأميركية، وأن من يقاتلها في لبنان يناقض قيمها وأهدافها في العالم، وبالتالي صححت تعريف الخصام السياسي في لبنان بأنه صراع بين عقيدتين إنسانيتين مختلفتين حد التناقض ليصل للمواجهة بكل وسائلها، و«المتراس» مفردة لوجستية عسكرية تؤكد أن بعض هذا الصراع هو عسكري بأشكاله القاسية وليس حواراً بين حضارتين ووسيلةً لإقناع الآخر.
ولكن السؤال لماذا يشكل لبنان المتراس الأول في العقيدة القتالية الأميركية؟؟
إن القضاء على العدو يستلزم القضاء على عناصر قوته أو حصارها أو تعطيل فعالياتها وأهم نقاط القوة تتمثل في العقيدة، والوعي، والاقتصاد، والبنية الاجتماعية، والقوة المسلحة عديداً وأسلحةً. وقد استطاع لبنان الاستفادة من خصوصيات بنيته الاجتماعية والطوائفية والانفتاح على العالم لتشكيل مقاومة تتمايز بأشكالها التنظيمية والعقائدية لكنها تشترك في قاسم «إنساني» هو مقاومة المعتدي والمحتل والظالم، وكاد النموذج اللبناني يتحول إلى أمثولة مقاومة على مستوى العالم وخاصة في العالمين العربي والإسلامي اللذين يمثلان الهدف الأميركي المباشر للسيطرة عليهما وعلى ثرواتهما، بل إنه وجّه صفعة معنوية للعملاق الأميركي.
إن هذا البلد الصغير يكاد يغلق الطريق أمام المشروع الأميركي مع فقدان التوازن المادي وتعويض ذلك بالعقيدة والإرادة، فعمدت أميركا إلى محاولة إطفاء هذه الشعلة المقاومة المضيئة، بتصويرها ناراً تحاول حرق كل الواحات الخضراء في المنطقة، فأمرت إسرائيل بشن حربها في تموز 2006 لإطفاء نار المقاومة في لبنان فكانت النتائج عكسية، حيث أحرقت إسرائيل أصابعها التي كانت تخيف العرب بها وأصيبت البنية الكيانية للدولة على مستوى الجيش وعلى مستوى المؤسسة السياسية، فلجأت أميركا إلى محاولة الإخماد الداخلي بما يسمى الفتنة بأسمائها المختلفة المذهبية والطائفية والسياسية ولم تنجح ولن تنجح في ذلك، أما عملية الهجوم الأميركي الذي تحول إلى مرحلة الدفاع في هذه اللحظات نتيجة صمود الوطنيين في لبنان فإنه يهدف إلى تدمير عناصر القوة للعدو وهي:
ــ العقيدة بأشكالها المتنوعة وبالأولويات المحددة أميركياً، فالإسلام حوّلته إرهاباً وفاشية، والمسيحية فرّغتها من محتواها الأخلاقي والسياسي لإبعادها عن قضايا المجتمع والناس وحصرها في الكنيسة، والقومية العربية أجهضتها وألغتها من الفكر العربي مرة بقتل رموزها أو غيابهم ومرة بتسخيف الفكرة واللهو بها كما فعل القذافي، والشيوعية سقطت بسقوط الاتحاد السوفياتي، وبالتالي فإن المسار العام في الصمود والتأثير انحصر بالعقيدة المضادة والمؤثرة وحتى المسلحة وهو الإسلام التحرري المقاوم.
ــ الوعي: إن لبنان تاريخياً يمثل مكتبة العرب وجامعتهم ونافذتهم الفكرية ويمثل المؤسسة السياسية التي خرّجت وحضنت المقاومين في فلسطين، والأدباء والمفكرين ورجال الوعي المنفيين أو المهاجرين من بلادهم، والصحيفة والمجلة التي تنقل هموم الناس والحقائق، والصورة الناطقة في الفضائيات التي تقوم بالتعبئة وتنقل الحقيقة، وبما أن الوعي والمعرفة يتناقضان مع الاعتراف بتفوق الآخر أو العبودية له، فلا بد من نشر الأمية التي تجاوزت أكثر من 40% من مجموع السكان (64 مليون أمّي في العالم العربي).
ــ البنية الاجتماعية ــ التنوّع: إن لبنان يشكّل المثل الحيّ الذي يكذّب ويناقض المشروع الأميركي القائم على التقسيم الطائفي والقومي والمذهبي، فهو بتنوّعه الطائفي في مساحة ضيقة جغرافياً مع محدودية الموارد يسفّه منطق التقسيم الذي تعمل له أميركا في المنطقة، بل يشكل النموذج الحضاري النقيض لإسرائيل العنصرية، ومساحة نموذجية للتلاقي المسيحي والإسلامي العملي لا النظري، والانسجام والتعايش بين كل المذاهب، بل الاندماج المتميز والتكامل، ولذا لا بد من محاولة تدمير هذه الصيغة الفريدة لفتح الطريق أمام تقسيم المنطقة بعد فشل المحاولة الأولى في الحرب الأهلية عام 1976.
ــ الاقتصاد: لقد شكل الاقتصاد اللبناني الذي يعتمد على كفاءة اللبناني لا على مواد أولية أساسية كالنفط وغيره، وملجأً آمناً للأموال العربية في مصارفه، وملجأً للسياح العرب والمسلمين، فلا بد من تدمير هذا الاقتصاد وإرهاقه بالمديونية التي تجاوزت 40 مليار دولار وربطه بنظام «التسوّل» العالمي من خلال المؤتمرات الدولية بالشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أي الخبز مقابل السيادة والقرار المستقل كما الأردن ومصر وفلسطين... وفرض التشريعات للقضاء على الزراعة والصناعة، هذا ولا يزال الاقتصاد اللبناني في العناية الفائقة يقاوم محاولات إعدامه.
ــ المقاومة المسلحة: إن خصوصية الحالة اللبنانية في احتضان المقاومة الفلسطينية والحرب الأهلية قد فتحت نافذة التعرف بالسلاح وسمحت بالتلاقح مع العقيدة التحررية من أفكار يسارية ابتداء ومن ثم بالعقيدة الإسلامية الواقعية عبر الإمام موسى الصدر. وقد تشكلت في لبنان نواة مجتمع مقاوم يملك أذرعة متعددة للدفاع والهجوم، فبعضها مسلح، وبعضها إعلامي وآخر فكري.. وتميزت هذه المقاومة بخصوصية أن سلاحها لا يطلق النار إلا في اتجاه واحد هو العدو الإسرائيلي حيث يمنعه صمام أمان عقائدي ووطني من الانزلاق إلى الساحات الداخلية مهما كانت الظروف والصعوبات وحتى الطعنات.
ــ ولذا لبنان يمثّل مرغماً وبالإكراه ساحة صراع بين المشروع الأميركي للسيطرة على المنطقة والعالم وبين المشروع التحرري المقاوم، وللأسف يمثل بعض اللبنانيين عن قصد أو غير قصد أكياس رمل لبناء المتراس الأميركي في لبنان، والخطوة الأولى إنقاذ هؤلاء الإخوة في الوطن مهما كانت الظروف، ما يعرّي الأميركيين والإسرائيليين وتصبح المعركة السياسية والأمنية وجهاً لوجه مع العدو كما كانت في تموز، لأن ما نشهده الآن هو الفصل الثاني من هذه الحرب، أو تعويضاً عن هزيمتهم.
ــ لكن المنطق الديني والتاريخي يؤكد أن النصر حليف الشعوب المستضعفة وأن الاحتلال أو الاستعمار إلى زوال مهما طال أمده، والخطوة الأولى على طريق النصر هي الوحدة الوطنية، وحصار الفتن الداخلية، وعدم اليأس، وتحمّل التضحيات مهما عظمت، وفي النهاية سيسقط الفيل الأميركي كما سقطت أفيال أبرهة في مكة.
* سياسي لبناني