نسيب حطيط *
إن المشروع الأميركي للسيطرة على العالم يعتمد على منهجين متوازيين:
منهج يعتمد على السيطرة المباشرة بواسطة القوة والاحتلال، وتسلّم الأمور السياسية والاقتصادية من خلال حاكم أميركي (العراق، أفغانستان..)، ومنهج يعتمد على قيادة العالم بشكل غير مباشر من خلال هيئات وأفراد في كل بلد تخضع للإدارة الأميركية وتنفذ تعليماتها، تحت قناع القرارات والقوانين الخاصة بكل بلد.
وكان مستشار الأمن القومي بريجنسكي قد ألّف كتاباً بعنوان «أميركا بين السيطرة أو قيادة العالم»، ويقترح اللجوء إلى خيار قيادة العالم بدل السيطرة عليه، ولكن ما هو الفرق بين السيطرة على العالم أو قيادته؟.
إن السيطرة على العالم تستلزم قيام أميركا بالغزو المباشر للبلد المراد السيطرة عليه، ما يلزمها توفير القوى العسكرية والعتاد والأسلحة والموازنات المالية، ويحوّل الأراضي والحدود الأميركية الى حدود مطاطية، وغير متواصلة، بل متناثرة كجزر أمنية تتعرض للمقاومة المباشرة، الأمر الذي يؤدي إلى إرهاقها وإرهاق المواطن الأميركي بالضرائب، لتغطية الموازنات العسكرية (مع أن قسماً كبيراً يُغطى من سرقة الموارد والثروات الوطنية لكل بلد تغزوه أميركا، بالإضافة إلى الاحتيال في الاستيلاء على الأموال العربية الواردة من عائدات النفط، إما عبر خسائر البورصة، أو التوظيفات في البنوك الأميركية، أو مبيعات الأسهم لهذه الدول التي فاقت حاجتها أضعافاً مضاعفة)، وهذا مما يدفع هذا المواطن إلى تغيير خياراته السياسية فيعرّض الإدارة التي تحكم في الداخل للاهتزاز والتغيير، كما حدث مع الرئيس بوش والجمهوريين في الانتخابات الأخيرة، ويمكن أن تستمر هذه الخيارات حتى انتخابات الرئاسة.
أما قيادة العالم فإنها تعتمد على طريقتين:
الأولى: إذا استدعى الأمر تدخلاً خارجياً عسكرياً مباشراً، يُستعان بدول مجاورة تحت ذرائع متعددة (نزاع على الحدود، تهديد أمن، اعتداءات، أو تسليم مطلوبين)، وتُدعم هذه الدول لوجستياً وتُغطّى سياسياً للقيام بهذه المهمة، كما حصل مع إسرائيل في لبنان، وأثيوبيا في الصومال، وذلك لتنصيب أنظمة حكم موالية لأميركا وقمع حركات المقاومة داخل هذه الدول. الطريقة الثانية: تبنّي أو صناعة حركات معارضة داخل الدول المطلوب السيطرة عليها ومساعدتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لتسلّم نظام الحكم، وتنفيذ الأوامر وتأمين المصالح الأميركية بقفازات ديموقراطية وطنية الولادة والإقامة (لبنان، مصر، الأردن...)، ما ينقذ أميركا من الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية ويحقق مصالحها من خلال «قيادة العالم» لا السيطرة الميدانية. ولذا تتجه إلى إقامة «أنظمة مقاولة» تُغطى دولياً وتؤمن مصالحها الشخصية والسياسية كأنظمة حكم عائلية.
وتحكم البلاد بنظام «الحاكم الأميركي» بريمر في العراق، لكن الأسلم لأميركا قيام أنظمة «الحاكم الوطني» برتبة ملك أو رئيس جمهورية أو أمير أو رئيس وزراء، بوسائل متعددة، الدين (وعّاظ السلاطين)، والاقتصاد (الضرائب)، والتربية والفكر من خلال (المناهج)، والإعلام من خلال (الرقابة) مع عدم نسيان ضرورة أداء صلاة الجمعة في أحد المساجد. وإذا تعذر ذلك فلا بأس في نقل (المسجد والإمام) إلى مقره لضرورات الأمن أو الصحة.
أما في لبنان فقد جرّبت أميركا الطريقة الأولى مرة بالوجود المباشر (القوات المتعددة الجنسيات) بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ثم بالاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، وآخرها حرب تموز ٢٠٠٦ التي هُزمت فيها إسرائيل وأميركا، فارتدت أميركا إلى الخطة الثانية وهي (قيادة) لبنان من خلال حركة ١٤ آذار ودعمها لتثبيت نظام الحكم.
لكن المشكلة التي واجهتها أميركا هي الخصوصية اللبنانية (طوائفياً، وسياسياً، ودرجة الوعي والدينامية الشعبية). ونتيجة ضعف الحكومة وعجزها عن تنفيذ المهمات المطلوبة، فرضت على أميركا اتجاهاً جديداً هو تحويل لبنان إلى (محمية سياسية دولية) وبناء مرتكزاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية وحتى الدينية بقناع دولي وفق التالي:
الحكم الإداري والسياسي:
ــ دعم الحكومة المحلية مهما كانت قوتها الشعبية ضعيفة أو تجاوزت الأطر الميثاقية والدستورية والوفاق الطوائفي المسمى وفاقاً وطنياً، وتجاوز رئاسة الجمهورية غير المتعاونة وكذلك مجلس النواب، والتأكيد على مرجعية الأمم المتحدة في كل القضايا، وترسيخ الخطاب المباشر بين الحكومة اللبنانية والأمين العام للأمم المتحدة كمسؤول مباشر بديل من المؤسسات الدستورية اللبنانية.
ــ الاستغناء عن الجهاز القضائي اللبناني عبر قيام محكمة دولية هدفها الظاهري كشف جريمة اغتيال الرئيس الحريري لكن نظامها المطاطي والرمادي يجعل إمكانية تمددها في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات، وهذا ما صرح به رئيس الحكومة (إن هدف قيام المحكمة ليس كشف القتلة فقط بل حماية لبنان)، وحماية لبنان لفظ مبهم وعريض يحتمل كل الاحتمالات ويزيد المخاطر الخارجية.
ــ الاستغناء عن القوى الأمنية اللبنانية إما لعدم الثقة وإما لضعفها، وإيجاد البديل منها عبر اليونيفيل أو المتعددة الجنسيات، كما يحاول البعض الآن.
النظام الاقتصادي والاجتماعي:
ــ بناء نظام اقتصادي واجتماعي بكل مستوياته يعتمد على مؤثرات الدعم الدولية التي ترتكز على القروض والاستدانة، وإرهاق المواطن بالضرائب وضرب الإمكانيات الذاتية في الصناعة والزراعة والتجارة، (باريس 1، 2، 3)، (مؤتمرات روما، نيويورك، استوكهولم)...
ــ محاولة استغلال المؤسسات الدينية (بكركي، دار الفتوى، مشيخة العقل...) وإقحامها في التفاصيل السياسية لدعم توجهات فريق سياسي داخل طائفته عبر إضفاء الطابع الديني أو سلخه عن بعض التحركات وفق المصلحة، والمعاقبة بالطرد من المنصب أو الوظيفة الدينية لكل معارض لهذه التوجهات (إقالة أئمة المساجد، ودار الفتوى، والأوقاف الدرزية، ومشيخة العقل...)، أو تصنيف فرقاء أي طائفة بين معتدل ومتطرف.
ــ القضاء على المنهج التربوي الوطني من خلال ضرب الجامعة اللبنانية التي كانت تاريخياً مركز انطلاق للمشروع الوطني اليساري والإسلامي أو تغيير البرامج، وذلك عبر «تفريخ» الجامعات الخاصة طوائفياً أو تجارياً والقضاء على النظام التربوي الجامع والموحد للبنانيين.
ــ السيطرة على القطاع الإعلامي بشكل عام، الرسمي والخاص، وحصار الإعلام المناوىء والمقاوم للمشروع، داخلياً وخارجياً.
وبالتالي يكون بناء المحمية السياسية الدولية في لبنان قد اكتمل ميدانياً كتجربة أولى يمكن تعميمها عالمياً كنموذج متطور لقيادة العالم أميركياً بشكل (بارد وقانوني) وفق ما يسمى الشرعية الدولية.
* سياسي لبناني