هادي قبيسي *
يحكم هذه المرحلة من الصراع بين الولايات المتحدة وإيران شكل من أشكال الحرب الباردة، في ظل عدم استعداد أي من الطرفين للحسم العسكري المباشر. فعلى رغم وجود قوى أيديولوجية في مستوى القرار في كلا البلدين، يقف الواقع الجيوبوليتيكي الصلب، حتى الآن، عائقاً أمام تحوّل المواجهة إلى الميدان العسكري المباشر. ويردف هذا الواقع ضغط القوى المعتدلة داخل كلا البلدين في اتجاه الحلول الدبلوماسية. ويمكننا الحديث، ضمن هذا السيناريو، عن تكوّن حلف شرق أوسطي في مواجهة أميركا، يمتد من طهران إلى دمشق فبيروت وغزة، فيما توفر روسيا الخلفية الجيوستراتيجية على المستوى الدولي للحفاظ على هذا الحلف إن لم يكن حمايته، كما ظهر واضحاً في زيارة إيفانوف لطهران، وتؤدي الصين دوراً أقل حيوية في هذا السياق. وتقوم إيران بدور اللاعب الأساسي في مشروع المواجهة، نظراً إلى مقوماتها الاقتصادية والعسكرية وعلاقاتها الإقليمية ودورها في العراق، حيث تنتشر الفرق الأميركية كنقطة ضعف استراتيجية تستنزف الإمبراطورية الأحادية.
في المشهد الآخر، دار ويدور نقاش لا ينتهي في دوائر القرار الأميركية حول الحلول الممكن اعتمادها للخروج من هذه الورطة. وأخيراً خرج بوش بخطة ذات حظ ضئيل، في محاولة للإجابة عن السؤال الملحاح: كيف يمكن تطويق إيران، احتواؤها، وإذا أمكن، لجم نفوذها الإقليمي الذي يشكل نفوذها في العراق مدماكاً أساسياً فيه. صحيح أن الخطة كانت تحت عنوان الأزمة العراقية، لكن الهدف الأساسي لها هو إيران التي تسعى بشكل جاد نحو تحويل العراق إلى مأزق للوجود الأميركي.
تتمخض النتيجة الحالية لهذا النقاش عن توجه نحو الاحتواء، يقارب بقوة المجال الاستخباري والاستهداف الأمني، وقد يتطور في الأشهر أو السنوات اللاحقة ليتحول إلى منحىً عسكري مباشر. لكن حتى الآن يمكن القول إن السياسة الأميركية تجاه إيران لا تزال في نطاق الاحتواء. فإلى حد ما ساهمت تحذيرات المعتدلين أو الواقعيين الأميركيين، وبينهم كبار الساسة السابقين أمثال كيسنجر، بريجنسكي، كارتر وغيرهم، من النتائج الكارثية لاستهداف إيران بشكل مباشر على أراضيها، في فرملة مرحلية لمشاريع الحرب، ولهذا تلوح أمامنا علامات توازن ردع نسبي، استراتيجي لا عسكري، بين إيران وأميركا، مع الفارق.
هذا الردع النسبي يولد الحرب الباردة التي تحتوي على بعدين، البعد الأول هو حرب الاستخبارات، والثاني هو حرب البدائل. على صعيد حرب الاستخبارات أظهرت التعيينات الجديدة لبوش اتجاهاً واضحاً نحو إعطاء المناصب الحساسة لشخصيات ذات خلفية وتجربة استخبارية. فوزارة الدفاع عهد بها إلى روبرت غيتس رئيس السي آي إي السابق، ذي الخبرة الطويلة والعقل الأمني الجيد، بحسب بعض المعلقين الأميركيين، وصاحب السوابق في تمرير المشاريع بعيداً من أنظار الكونغرس، على طريقة إيران كونترا. وانتقل نيغروبونتي إلى منصب نائب وزيرة الخارجية، لتأخذ الوزارة دوراً أمنياً استخبارياً رديفاً للدور الديبلوماسي. وأخيراً صدر تقرير عن قسم «ضد التجسس» في وزارة الدفاع يعرض النشاط الاستخباري الأميركي الحالي ويصفه بأنه في أعلى مستويات النشاط منذ سنوات طويلة. وعادت دعوات المحافظين الجدد إلى خصخصة وكالة الاستخبارات المركزية، ليتاح لهم التحرر من القيود القانونية على هذا الصعيد. فإلى جانب الضرورات الميدانية للصراع ثمة أسباب أخرى لاندفاع بوش نحو هذا الخيار، ألا وهو سيطرة الديموقراطيين على مجلسي النواب والشيوخ، إذ أصبح مشروع المحافظين الجدد الذي يتولى تنفيذه بوش بحاجة إلى مسارات غير رسمية، تسترجع تجربة إيران كونترا في الالتفاف على قوانين الكونغرس.
ميدانياً بدأت نتائج هذه التعيينات تظهر سريعاً، إذ خطف أربعة ديبلوماسيين إيرانيين في العراق، بتهمة العمل لمصلحة حرس الثورة، ثم أُطلقوا بعد حجز الوثائق التي كانت في حوزتهم، والتي تضمنت معلومات عن دور إيران في دعم المجموعات التي تنفذ عمليات عصاباتية ضد الوجود الأميركي في العراق، بحسب صحيفة نيويورك صان الأميركية. ومنذ فترة وجيزة اقتحمت القوات الأميركية القنصلية الإيرانية في أربيل واعتقلت بعض أعضائها، باعتبار أنهم يعملون لمصلحة الحرس الثوري الإيراني، متسترين بغطاء العمل الديبلوماسي. على جبهة أخرى، وفي لبنان تحديداً، ظهرت إلى العلن خيوط هذه السياسة، حيث كُشف عن دور متوقع للسي آي إي في مواجهة حزب الله، بتغطية من حكومة السنيورة.
البعد الثاني للحرب الباردة هو حرب البدائل، حيث ينأى قطبا الصراع عن خوض الحرب مباشرةً نظراً إلى نتائجها السلبية غير المحدودة. هذا ما يحصل حالياً بين الولايات المتحدة والجمهورية الإيرانية، حيث يعمد كل منهما إلى خوض حروب عبر الحلفاء، وذلك بشكل واضح ومعلن، فبعدما أعلنت أميركا منذ سنوات ضرورة إيجاد حلف يجمع الدول «الديموقراطية»، في مواجهة محور الشر وقوى الظلام، وبعد همروجة حلف المعتدلين إبان الحرب على لبنان الصيف الماضي، جاء دور قوى التحرر لتؤكد نشاطها في مجال دعم القوى المناهضة لأميركا، الأمر الذي عبّر عنه صراحة نجاد وتشافيز الشهر الماضي، وسبقه تأكيد إيران دعمها لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين.
أما الساحة الرئيسية لصراع البدائل، في هذه المرحلة، فهي العراق. يمثل التيار الصدري في العراق القوة المتحفزة للمواجهة مع أميركا من بين القوى ذات العلاقة بالجمهورية الإيرانية. وعليه تضع أميركا نصب عينيها استهداف التيار الصدري، خطوةً أولى لإطلاق دومينو محاصرة إيران إقليمياً وإضعاف القوى المدعومة من جانبها والمتحفزة لمواجهة الوجود الأميركي. أمام التعقيدات السياسية والعسكرية التي تمنع الأميركيين من تجيير نتائج حرب البدائل في العراق وغيره لمصلحتهم، هل سيندفع بوش بـ«إلهامه الإلهي» نحو تسخين هذه الحرب الباردة، أم هذه الضغوط ستدفع به نحو حصر هذا الصراع مرحلياً في البعد الأول الاستخباري السري الذي يذكّر بصراع الكي جي بي والسي آي إي طوال النصف الثاني من القرن الماضي. إن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد المعالم الجيوستراتيجية للشرق الأوسط، وربما للعالم، في القرن المقبل.
* باحث لبناني