رشاد أبو شاور *
ليس انحيازاً عاطفيّاً، أو عصبويّاً، هذا الالتفافُ حول مجلّة «الآداب»، التي يراد لها أن تقف في قفص الاتهام أمام محكمة لبنانيّة بعد أيّام ـــــ في 7 شباط كما قرأتُ ـــــ ممثلةً بمؤسِّسها (المعلّم) سهيل إدريس، ورفيقةِ عمره وكفاحه السيّدة عايدة مطرجي إدريس، والدكتور سماح إدريس، بسبب «الدعوى» القضائيّة التي رُفعت باسم فخري كريم صاحب دار المدى، وصحيفة «المدى»، ومنشورات «الكتاب للجميع» التي توزّع ـــــ لوجه الثقافة العربيّة! ـــــ مجّاناً.
القضيّة المرفوعة على «الآداب»: قدح وذّم! وصاحبُ الدعوى، كما يعرِّف به محاميه اللبناني، «من الشخصيات العراقيّة المرموقة، والمشهود لها، ماضياً، وحاضراً،.. بالالتزام الوطني والقومي، وبالنضال بإخلاص في سبيل قضايا وطنه الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة». المحامي اللبناني الموكل إليه رفع الدعوى أغدق الصفات الحميدة على موكّله، مصادراً رأيَ كلّ من عَرف هذه الشخصيّة «المرموقة» التي عاشت في لبنان لسنوات، وفي سورية لسنوات، وكانت شخصيّة «شيوعيّة»، وحاليّاً تخدم هذه «الشخصيّة المرموقة» رئيسَ العراق الطالباني في زمن الاحتلال الأميركي!
الافتتاحيّة التي كتبها سماح إدريس، ونشرها على صفحات «الآداب» في عدد 5/6/2007، قرأتُها في حينه، ووجدتُها تثير قضايا ثقافيّة وفكريّة، وتحرّض على الجدل في مفهوم الثقافة، وسلوكيات المثقف، وأسئلة كثيرة ما زالت تلحّ منتظرةً الإجابات.
بعض من مرّ سماح إدريس على سلوكياتهم ردّوا عليه، وإن في منابر غير «الآداب»، وهذا حقّ لهم، وحقّ للقارئ عليهم؛ فهم شخصيّات عامة، بعضُها كبيرُ التأثير كأدونيس مثلاً.
فخري كريم عراقي يعمل مستشاراً للطالباني الرئيس في زمن الاحتلال. قضى عمره في صفوف الحزب الشيوعي العراقي قبل أن يلتحق بالمشروع الأميركي، ويأخذ دوره غير المرموق في زمن بريمر...
فخري كريم هذا عرفناه في بيروت ودمشق بكنيته: زنقنة. ومتأخرين عرفنا أنه كردي؛ فنحن لم نعتد النبشَ عن الأصول الدينيّة أو العرقيّة.
في مرحلة ما بعد الخروج من بيروت عام 82، كان فخري كريم يتسلّم رواتب العراقيين المعينين في الإعلام الفلسطيني الموحّد في دمشق (لم يكن مطلوباً من «الرفاق» العراقيين أيّ دوام رسمي، فرواتبهم كانت مساعدةً لهم ليتمكنوا وأُسرهم من العيش بكرامة). كان فخري كريم يتحكّم بأصحاب تلك الرواتب، فيقتطع منها بحجّة أن المبالغ المقتطعة تذهب لماليّة الحزب. وكان يحرم هذا الراتبَ مَن تسوِّل له نفسُه أن يتمرّد عليه، أو يختلف معه في التفكير، أو يثير الأسئلة؛ وهو ما أدّى إلى تمرّدٍ قاده الكاتبُ والباحثُ المناضل فاضل الربيعي، الذي دعمناه في تسلّم راتبه من الإعلام الفلسطيني مباشرةً، ليتحرر من تسلّط فخري كريم! وهذه الواقعة يمكن أن تكشف الكثير.
الشيوعيون العراقيون يعرفون الكثير عن فخري كريم، ولديهم ما يقولونه، وهذا ما نتركه لهم. فهذه الشخصيّة «المرموقة» يجب أن تُُكشف للناس، بشهادة مناضلين عراقيين، وفلسطينيين، ولبنانيين، وسوريين... ويمنيين أيضاً!
من جهتي أودّ أن أطرح بعض الأسئلة على فخري كريم، من دون أن أنتظر أجوبة؛ فأسئلتي أطرحها على القرّاء العرب في كل أقطارهم، مثقفين، ومبدعين، وقرّاءً متابعين معنيين:
ـــــ من أين لفخري كريم كلّ هذه الأموال التي ينفقها على دارٍ للنشر أصدرت مئات الكتب؟! فنحن نعرف حالة ضمور انتشار الكتاب العربي. ولذا نلحّ في السؤال، ومن حقّنا قرّاء ومتابعين أن نحصل على إجابة واضحة، وبالأرقام. ذلك أنّ دُور النشر العربيّة العريقة الكبرى تعاني الكسادَ، وسوءَ التوزيع. ولذا قنّنت عدد النسخ، وما عادت تَمنح المؤلفين «الكبار» سوى النزر اليسير من مردود كتبهم التي باتت قليلة الانتشار لأسباب يعرفها القرّاء.
ـــــ من أين ينفق فخري كريم على صحيفة يوميّة تصدر في العراق، في زمن ديموقراطيّة بوش، زمنِ إبادة الشعب العراقي، وهجرةِ ملايين العراقيين؟! فأنا أكتب في الصحافة العربيّة منذ أربعين سنةً، وأسهمتُ في تأسيس بعض الصحف والمجلات الفلسطينيّة التي كانت تعيش من دعم منظمة التحرير الفلسطينيّة أو فصائل فلسطينيّة، وهي كانت تخسر. وكل صحيفة من دون إعلان، ودعم كبير، تخسر!
ـــــ أليس من حّق أيّ مواطن، عراقيّاً كان أو غير عراقي، أن يسأل: سلسلة «الكتاب للجميع»، التي تصدر عن دار المدى وتوزّع مجّاناً مع عدّة صحف عربيّة، كم تتكلّف طباعةً وشحناً وحقوقَ تأليف؟ ومن أين يأتي الإنفاق عليها؟ وما الهدف من هذا؟ أهو خدمة الثقافة العربيّة؟! خدمة الثقافة العربيّة في زمن تفكيك العراق، وتدمير انتمائه العربي، واستباحته أميركيّاً وصهيونيّاً؟! أليس من الطبيعي أن يثير ذلك الريبة والأسئلة؟!
أليس من حقّ سماح إدريس، وأيّ كاتب عربيّ، أو كرديّ، أو آشوريّ، أو.. أن يطرح الأسئلة عن «مهرجان» المدى الذي حضره مئاتُ المدعوين، بتذاكر سفر، ونفقات، وفنادق.. في كردستان العراق؟!
من أين لفخري كريم كلّ هذه الأموال التي تعجز عن توفيرها دولةٌ غيرُ نفطيّة (ما النفط السرّي في هذه الحالة؟!)؟ وما سرّ هذه التجارة الثقافيّة الرابحة؟ وما هي مرابحها غير المنظورة؟ ولمن؟ وعلى حساب من؟!
الدعوى المرفوعة نيابةً عن فخري كريم أمام القضاء اللبناني، هدفُها إرهابُ وحرمان أيّ مثقّف، ومفكّر، وكاتب، بل وأيّ مواطن في أيّ بلد عربي، ولا سيّما داخل العراق، من التجرّؤ على طرح الأسئلة عن مسيرة فخري كريم.. «المرموق»!
الدعوى هدفُها اجتثاثُ ثقافة «الآداب»، تساوقاً مع سياسة بريمر الاجتثاثيّة في العراق: ثقافةِ الانتماء، ثقافةِ مقاومة الاحتلال الاميركي والصهيوني للعراق وفلسطين ولبنان...
إنّ ثقافة «الاجتثاث»، التي هي ثقافة الحقبة الأميركيّة، تنتقل بهذه الدعوى من العراق المحتلّ أميركيّاً وصهيونيّاً لتنشر الرعب في لبنان، بما يمثّله لبنان ثقافيّاً، وبما تعنيه «الآداب»: المجلّةُ العريقة، ودارُ النشر، والأُسرةُ التي خدمت الحركةَ الثقافيّة العربيّة على مدى عقود!
منذ قرأتُ مقالة بيار أبي صعب في «الأخبار» التي نبّهتني إلى خطورة هذه القضيّة، وأنا مدهوشٌ ليس من اجتراء فخري كريم على «الآداب» وما تمثّله، بل علينا جميعاً حركة ثقافيّة عربيّة، وعلى رموزنا الأحياء والراحلين، الذين تكوّنوا على صفحات «الآداب»، وانتشروا عبر منشورات «الآداب»، برعاية المبدع الكبير سهيل إدريس الذي ضحّى بموهبته الكبيرة، روائيّاً وقاصّاً، ومعه رفيقة دربه ومشواره المشرّف السيّدة عايدة مطرجي القاصة والمترجمة، ليبنيا صرح «الآداب» داراً ومجلّة.
ولأنّ سماح إدريس تربّى في هذه المدرسة (وهنا لا نتجاوز دور رنا إدريس مديرة الدار بعد والديها)، ولأنه ينتمي إلى جيل آخر يواجه تحدّيات، ولأنه منتمٍ، ولأنه ناقد ساخط على أحوال العرب، ولأنه مقاوم لتفكيك الوطن العربي إلى طوائف وحارات صار لها منظّروها في زمن الاحتلالات، فإنه يكتب مساجلاته صارخاً، بعمق الألم الذي يؤرّقه مفكّراً وإنساناً ينتمي إلى أمته التي تُذبح في فلسطين والعراق ولبنان...
نحن نكتب منذ أربعين عاماً، بدأناها على صفحات «الآداب» (مقالتي الأولى نُشرت في عام 65)، ولا نكاد نستطيع تدبير أمور حياتنا. فلماذا لا يُسمح لنا بسؤال فخري كريم هذا: من أين لك كلّ هذه الأموال؟ أهي من مردود كتاباتك وأعمالك الأدبية والفكريّة؟! كيف ادّخرتَ كلّ هذه الأموال، وقد عرفناك بالكاد ـــــ لولا مساعدة الفلسطينيين ـــــ تعجز عن تدبير مصاريف حياتك اليوميّة المعيشيّة؟!
المحاكمة التي ستُعقد بعد أيّام يجب أن تتحوّل إلى محاكمة لكلّ من يتلاعبون بالثقافة العربيّة، مَن يثرون باسمها، مَن يروّجون لثقافة الاحتلال، لثقافة تمزيق الأقطار العربيّة، في الزمن الأميركي الصهيوني.
ختاماً لديّ اقتراح أن تتشكّل هيئةُ دفاع عن «الآداب» من الكتّاب المحامين، ومنهم مَن لمعوا قصّاصين وشعراء وروائيين، على صفحات «الآداب»، ومن عدّة أقطار عربيّة. فـ«الآداب» قضيّة، وقيمة ثقافيّة قوميّة بامتياز.
* كاتب فلسطيني