تُشكل الطائفية من المنظور السياسي الرسمي نظام حكم الطوائف القائم على المشاركة والتوازن المؤطّر والمضبوط. وانطلاقاً من ذلك فإن السلطة المسيطرة تنظر إلى الطائفة بكونها كياناً مستقلاً قائماً بذاته. والعلاقة بين الطوائف من هذا المنظور، خارجية لا وحدة بينها سوى ما تُقيمه السلطة. وعلى هذه القاعدة تتم إعادة إنتاج دولة الطوائف. أما احتمال تحلّل أو تفكك الصيغة التمثيلية للطوائف، فإنه يعني تهديد استمرار سلطة الدولة الطائفية، وتعطيل دورها في إدارة شؤون الطوائف. أما الطائفية من وجهة نظر شهيد الفكر مهدي عامل فإنها تعني «الشكل التاريخي المحدّد للنظام السياسي الذي تُمارس فيه السلطة السياسية سيطرتها».
فالشكل الطائفي للدولة يسمح للسلطة السياسية في سياق إدارة تمثيل الطوائف وضبطها، بإعادة إنتاج ذاتها في سياق يتم فيه إبعاد القوى الاجتماعية عن الحقل السياسي وتنضيدها في إطار الطوائف. فتصبح بذلك قوى مستقلة بذاتها، عاجزة عن القيام بدورها في التغيير الوطني الديمقراطي. وهذا يعني أن القوى الاجتماعية والسياسية بحاجة إلى كسر حلقة التمثيل الطائفي، وبناء قوى سياسية وطنية ديمقراطية محمولة على الطبقات الاجتماعية المهمشة والمفقّرة، وتحديد شكل علاقتها مع السلطة المسيطرة انطلاقاً من موقف سياسي واجتماعي طبقي. ويعمل رموز السلطة في النموذج الطائفي على إظهار الدولة كطرف محايد عن الطوائف والطبقات والصراعات الاجتماعية. وكأن علاقتها مع المكونات الاجتماعية والسياسية وبشكل خاص الطوائف خارجية.
تحديد ملامح المرحلة المقبلة يكمن في تحديد طبيعة القوى الحاملة لها
لكن الواقع والتاريخ، يؤكدان أن مؤسسات الدولة وأجهزة السلطة تمارس فعل الهيمنة والسيطرة من خلال فرض آليات وأشكال التمثيل السياسي الذي يؤمن لها الاستمرارية. لذلك فإن توظيف التمثيل السياسي الطائفي يشكّل من وجهة نظر أطراف الصراع الديني في اللحظة الراهنة أحد المخارج التي تستطيع من خلالها فرض هيمنتها السياسية على الحقل السياسي والاجتماعي. وذلك من خلال توضيب المناخات المناسبة للانتقال إلى نموذج طائفي على أنقاض أنظمة وطنية عجزت عن القيام بمهماتها التاريخية. لذلك فإن إفشال إنشاء نظام سياسي طائفي في سوريا، يعني إبقاء آفاق التغيير الوطني الديمقراطي مفتوحة. ولن يكون ذلك بمعزل عن مواجهة المشروع الإسرائيلي والتدخلات الإمبريالية. وذلك من أجل الحفاظ على وحدة الجغرافية السورية وتماسك مكوناتها الاجتماعية بناءً على مفاهيم السيادة والوحدة الوطنية.
وبالرغم من أن المعطيات التاريخية تؤكد أن الحوارات السياسية لم تفضِ إلى نتائج تفوق ما تم تحقيقه بالسلاح، فإن تحديد ملامح المرحلة المقبلة يكمن في تحديد طبيعة القوى السياسية والقوى الاجتماعية الحاملة لها، كذلك طبيعة التحالفات السياسية وبنيتها وأشكال تجلياتها. وهذا يحيلنا بشكل مباشر على المشهد العربي عموماً، وبشكل خاص سوريا وليبيا والعراق ومصر واليمن والسعودية. فجميع تلك الدول معرّضة لمآلات متقاربة. إن آليات وأشكال وأدوات الخروج من المحنة الذي تمر به شعوب المنطقة العربية بالنسبة إلى الأنظمة المسيطرة لا تتوافق مع طبيعة الحل السياسي الذي تطرحه القوى السياسية الوطنية الديمقراطية. فالخروج من الأزمة بالنسبة إلى الطرف الأول تعني إعادة إنتاج السلطة المنغلقة على ذاتها، مع المحافظة على مصالح كبار التجار والملاكين ورجال الدين والرأسمالية البيروقراطية والطفيلية. فنلحظ بذلك تعايش جملة من المتناقضات كان يقتضي تجاوزها في سياق التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. أما بالنسبة للقوى السياسية الوطنية الديمقراطية، فإن آفاق المستقبل السياسي مفتوحة على المستقبل وعلى التطور. لكنَّ ذلك مرهون ببنية تلك القوى وشكل علاقتها بالسلطة وأشكال تحالفاتها السياسية. والأهم هو شكل علاقتها بالمجتمع وآليات تعبيرها عن القضايا الأساسية للفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة. وهذا مرهون بدرجة كبيرة في قدرتها على تشكيل تحالف وطني ديمقراطي واسع وعميق.
من المعلوم أن الفكر المادي يؤكد أن الظواهر الاجتماعية تعبير عن البنية الاجتماعية. لذا لا تمكن قراءة أي ظاهرة اجتماعية بكونها قائمة بذاتها بل من خلال إعادتها إلى جذرها المادي المرتبط بنيوياً بالبنية الاجتماعية القائمة. وانطلاقاً من ذلك فإن مفهوم الطائفية، يجب أن يتحدد من خلال الفهم المادي للتاريخ. وهذا يعني تأكيد ترابط وتمفصل المستويات الاجتماعية، وبشكل خاص المستويين الاقتصادي والسياسي. وأي فصل بين مستويات البنية الاجتماعية يعني أن تحليل الظواهر الاجتماعية سيخضع إلى آليات تحليل ظاهراتية، ويندرج في هذا السياق تحليل الطائفية كظاهرة اجتماعية مفصولة عن المستوى الاقتصادي والسياسي. وهذا التحليل لا يتعدى ظاهر القضايا، وهو بذلك يتقاطع مع أشكال الهيمنة العولمية. فالطائفية ليست كياناً جوهرياً قائماً بذاته بل «شكل تاريخي محدد لنظام سياسي تمارس فيه السلطة سيطرتها الطبقية في إطار علاقة تبعية للإمبريالية». وهي الشكل الذي تظهر فيه الفئة المسيطرة بمظهر النظام السياسي الضامن للتعايش بين الطوائف. والطائفية بهذا المعنى تعبير عن علاقة سياسية، تكون فيها الطبقات الاجتماعية في تبعية سياسية طبقية للطبقة المسيطرة. وهي أيضاً تعبير عن علاقة بين فئات من الطبقات الاجتماعية، وفئة الزعماء التقليديين ورؤساء العائلات الكبرى والوجهاء الممثلين للطوائف. وهي بذلك ليست الفئة المهيمنة بالرغم من كونها تحتل في السلطة موقع السيطرة من خلال علاقة تمثيل سياسي تتحدد فيها الفئات الاجتماعية كالطوائف، بينما يتحدد ممثلوها السياسيون كفئة برجوازية مسيطرة. وما دامت الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة تتحرك في الحقل السياسي كطوائف فهي لا تمثل أي قوة سياسية فاعلة، وتفقد دورها في توحيد المجتمع والانتقال به إلى الوحدة الوطنية. فيتم بدلاً عن ذلك توضيب الفئات الاجتماعية وتنضيدها وفق أشكال تؤمن استمرار سيطرة زعماء الطوائف كرجال دين وسياسية ومال.
بالعودة إلى ما يتم إعداده لمستقبل سوريا السياسي فإن أشكال الصراع المحمول على مجموعات وتنظيمات جهادية متطرفة تشير إلى اشتغال تلك الأطراف بالتنسيق مع قوى دولية على نقل النموذج اللبناني إلى سوريا، هذا من دون استبعاد النموذج العراقي أو الدمج بينهما. وفي حال تم تمكين مشروع كهذا، فإن بنية الدولة والمجتمع بما يحتويه من طوائف ومكونات اجتماعية سياسية ومدنية، ستكون مُعرضة للتفجير من الداخل. ومن العوامل الكامنة خلف تحولات الأزمة السورية قوى دولية، ومجموعات جهادية إسلامية معبأة بوهم الحسم العسكري الذي سيسمح لها حسب زعمها بإقامة إمارات وكانتونات إسلامية أحادية. وهذا يتناقض مع نموذج الدولة الطائفية الذي يقوم على المشاركة السياسية والتمثيل السياسي. وهذا يدل على أن النموذج الطائفي في سوريا لو تم تمكينه واقعياً سيكون من أخطر العوامل التي ستعيق تشكّل القوى الاجتماعية في أطر سياسية وطنية مفتوحة على الانتقال إلى نظام سياسي وطني ديمقراطي. وهذا بداهة سوف يعزز من إمكانية نقل الصراع إلى حقل مكونات المجتمع الأولية بأشكال واسعة وعميقة.
وبما أن الطائفية تعبير عن علاقة سياسية محددة بشروط تاريخية خاصة وبنية اجتماعية محدّدة، فهي موجودة بالدولة لا بذاتها. إضافة إلى ذلك فإن الفكر الطائفي وآليات اشتغاله المتعيّنة واقعياً، يعمل على تكريس منطق الدين الذي هو بالنسبة له منطق التاريخ ومحرّكه. لكنَّ التاريخ الاجتماعي، يتحدد وفق منطق مادي موضوعي يترابط فيه المستويين الاقتصادي والسياسي في سياق علاقة جدلية. وهذا بالضبط يعطي التحليل السياسي مضمونه الحقيقي الذي من خلاله يمكن تحديد المعطيات والعوامل والأسباب الاجتماعية لأي ظاهرة اجتماعية. وعلى أساس هذا المنطق يجب علينا أن نحدد جوهر التحولات السورية وآفاق المستقبل السياسي وكذلك أشكال تجليات الصراع الذي يتقاطع في بعض تجلياته مع التحولات التي تخضع بعض الدول العربية لها. وإذا كانت الديمقراطية بمعناها الغربي تقوم على تعدد القوى والأحزاب السياسية فإن مسخ ديمقراطية الطوائف يقوم على حصر التمثيل الاجتماعي في زعماء الطوائف، ونفي النقيض الاجتماعي والسياسي النقيض للاستبداد السياسي والطائفية السياسية.
ولمواجهة التحولات السياسية التي يُعد لها من خارج الحدود، والمحمولة على مجموعات جهادية محمّلة بعفن التاريخ وتخلفه. يجب إظهار وتحديد التناقض الأساسي في النظام الرأسمالي المعولم، وآليات اشتغال رأس المال الذي يكرّس في سياق تمفصله مع التجار وأصحاب الرساميل والطغم المالية والسلطات السياسة، منظومة الاحتكار السياسي والاقتصادي التي تتحدد من خلال طبيعة العلاقة بين قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج.
أخيراً نشدد على أن الإيديولوجيا الطائفية تتمسك بنشأتها التاريخية انطلاقاً من مفهوم الضرورة. وفي إعادة إنتاج ذاتها في إطار النظام السياسي المسيطر كونها أحد أدوات السيطرة. وفي ظل النموذج الطائفي يتحدد مفهوم الوطن بكونه مجموعات دينية وإثنية وعرقية وقومية مختلفة في أصلها وعلى تاريخها وفي سلم قيمها وفي أنماط عيشها وسلوكها. بهذا المعنى فإن الفئات المتصارعة على التاريخ تتحمل المسؤولية التاريخية عن تهديم سوريا وتحطيمها، وعن تفتيت الوطن والمجتمع. وهذا يستدعي من جميع السوريين الدفاع عن الهوية الوطنية للمجتمع السوري التعددي، وعن الاستقلال وإرادة المقاومة والقدرات التنموية والتعددية الثقافية وأفق العلمانية والتقدم الاجتماعي، ومواجهة الطائفية التي تحملها مجموعات إرهابية أتية من تاريخ الظلام.
* باحث وكاتب سوري