طارق علي
قد تكون الزيجات المدبّرة مسألة تتّسم بالفوضى. فهي غالباً ما تفشل لأنّها أُعدّت أساساً لتكديس ثروات، وقطع الطريق على مغازلات غير مرغوب فيها أو تجاوز علاقات غرامية سرية. وحيث يُعرف عن الطرفَين أنّ أحدهما يمقت الآخر، وحده نسيب متهوّر، تضعفه فكرة الكسب السريع، يستمرّ في دفع العملية قدماً مع العلم التام بأنّها ستنتهي بشكل مأساوي وبعنف محتمل. وقد أضحى واضحاً، من المحاولة الأخيرة التي قامت بها واشنطن للجمع بين بنازير بوتو وبرويز مشرّف، أنّ هذا ينطبق أيضاً على الحياة السياسيّة.

وسطاء «زواج» بوتو ـــ مشرّف

كان النسيب الوحيد القوي في هذه القضية وزارة خارجية فاقدة الأمل ـــــ مع جون نيغروبونتي بصفة الوسيط المتجهّم، وغوردون براون بصفته إشبينة العروس المتورّدة الوجنتَين ـــــ وقد خشيت أن يصبح الطرفان قريباً عجوزَين جدّاً للاستخدام مجدّداً ما لم تدفع بالعملية قدماً. كانت العروس تستعجل الأمور حتماً، فيما بدا العريس على درجة أقلّ من العجلة. وانطلق الوسطاء من الجهتين بمفاوضات طويلة حول حجم المهر. من قبلها، كان ولا يزال رحمن مالك الوسيط، وهو رئيس سابق لوكالة التحقيقات الفدرالية في باكستان، يحقق معه مكتب المحاسبة الوطني بتهمة الفساد، وقد قضى ما يقارب سنة في السجن بعد سقوط بنازير، ثم أصبح أحد شركائها في الأعمال، ولا يزال يخضع لتحقيق (معها) تقوم به محكمة إسبانية تنظر في قضية شركة تُدعى بترولاين أف زي سي (Petroline FZC) قدّمت مدفوعات شُكّك في أمرها إلى العراق في عهد صدام حسين. وتظهر الوثائق، إذا كانت أصلية، أنّها ترأست الشركة. ربما كانت على عجلة من أمرها، لكنها لم ترغب في أن يراها أحد تتأبّط ذراع رئيس بالبزة العسكرية.
أمّا هو، فلم يكن مستعدّاً لمسامحتها على ماضيها. وأدّى كره الثنائي أحدهما للآخر إلى اعتماد مشترك على الولايات المتحدة، فلم يستطع أي من الطرفين الرفض، مع أنّ مشرف أمل أن يجري الاتحاد بشكل غير واضح. حظّ عاثر.
قدّم الطرفان تنازلات. هي وافقت على أن يخلع بزته العسكرية بعد «إعادة انتخابه» من البرلمان، لكن قبل الانتخابات العامة التالية. (قام بذلك الآن، تاركاً نفسه رهينة رضى خلفه في رئاسة هيئة أركان الجيش). وهو دفع باتجاه إصدار قرار قضائي، مسجّلاً بذلك سابقة أخرى قذرة في تاريخ البلاد تُعرف باسم مرسوم المصالحة الوطنية، وبموجبه تسقط كل قضايا الفساد المعلّقة الموجّهة ضدّ سياسيّين متّهمين بسرقة الخزينة. وكان المرسوم القضائي في غاية الأهمية بالنسبة إليها، إذ إنها أملت أن ترفض ثلاث محاكم أوروبية ــــــ في فالنسيا وجنيف ولندن ــــــ النظر في دعاوى تبييض الأموال والفساد المعلقة. لكن يبدو أن ذلك لم يحصل.

صفقة قضائيّة

وثارت حفيظة العديد من الباكستانيين ــــــ ليس فقط المتمردين والمشاغبين الذين يجب سجنهم بفواصل زمنية منتظمة ــــــ وقامت كل وسائل الإعلام الباكستانية بتغطية «الصفقة» بشكل غير مؤيّد لها، باستثناء تلفزيون الدولة. وفي الغرب، أُعلن بالطبل والزمر عن هذا «الاختراق» المحقق، وقُدِّمت بنازير بوتو مبرّأة من كل التهم على شبكات التلفزة الأميركية وفي أخبار محطّة التلفزيون التابعة للـ«بي بي سي»، فعدّت بطلة الديموقراطية الباكستانية ـــــ وقد أشار إليها المراسلون بإخلاص كـ«رئيسة الوزراء السابقة»، لا السياسية اللاجئة التي تواجه تهم الفساد في دول عدة.
وردَّت بوتو هذه الخدمة مسبّقاً بتعبيرها عن تأييدها لحربَي الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وبتناولها الغداء مع سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، وبتعهّدها «القضاء على الإرهاب» في بلدها. في عام 1979، قام ديكتاتور عسكري سابق بقتل والدها بموافقة من واشنطن، فربما ظنّت أنها ستكون بمأمن أكثر إذا سعت إلى تأمين ملجأ دائم تحت المظلة الإمبريالية. كانت دار النشر هاربر كولينز قد دفعت لها نصف مليون دولار لتُؤلّف كتاباً جديداً، فاختارت له العنوان التالي: المصالحةأمّا بالنسبة إلى الجنرال، فهو بدأ فترة حكمه عام 1999 عبر الانحناء لروح العصر وتلقيب نفسه «الرئيس التنفيذي» بدلاً من مدير القانون العرفي، كما كان سائداً. ومثل أسلافه، وعد بالبقاء في السلطة لمدة محددة فقط، وتعهد سنة 2003 الاستقالة من منصب قائد الأركان في الجيش عام 2004. ومثل أسلافه، تجاهل تعهّده. هذا ويبدأ القانون العرفي دوماً بوعد بإقامة نظام جديد يطيح القذارة والفساد اللذين طبعا النظام القديم: وفي هذه الحالة، أطاح الإدارات المدنية لبنازير بوتو ونوّاز شريف. لكن «الأنظمة الجديدة» ليست حركات تقدمية، بل انعطافات عسكرية تمعن في إضعاف الأساسات المتزعزعة للبلد ومؤسّساته. وفي غضون عقد من الزمن، تطيح الحاكم ذا البزة العسكرية ثورةٌ جديدة.

العودة وحلم المجد الماضي

أرادت بنازير بوتو، التي تحلم بأيام المجد التي عرفتها في القرن الأخير، أن تلقى استقبالاً كبيراً لدى عودتها. لم يكن الجنرال سعيداً. وكانت وكالات الاستخبارات (كما مستشاروها الأمنيون الخاصون) قد حذروها من المخاطر. لقد أعلنت الحرب على الإرهابيين فهددوا بقتلها، لكنها كانت متصلبة، وأرادت أن تظهر شعبيتها للعالم ولمنافسيها السياسيين، بمن فيهم الموجودون ضمن منطقة نفوذها، أي حزب الشعب الباكستاني. طوال شهر كامل سبق ركوبها الطائرة المتوجهة من دبي إلى كراتشي، كان حزب الشعب الباكستاني منشغلاً بتجنيد متطوعين من كل البلاد للترحيب بها. فاصطف حوالى 200000 شخص على طول الطرقات، ولكن هذا العدد أتى مختلفاً جداً عن المليون شخص الذين قصدوا لاهور عام 1986 عندما عادت بنازير مختلفة جداً لتحدّي الجنرال ضياء الحق. وكان البرنامج يقضي بالانتقال ببطء في سيارتها من مطار كراتشي إلى قبر مؤسس البلاد، محمد علي جناح، حيث قُرِّر أن تلقي خطاباً. غير أنّ ذلك لم يتحقّق.
فعندما حل الظلام ضرب ملقو القنابل ضربتهم. مَن هم ومَن أرسلهم، لا تزال المسألة غامضة. لم تصب بأذى، لكنّ 130 شخصاً لقوا حتفهم، بمن فيهم بعض رجال الشرطة الذين يتولّون حراستها. لقد أثمرت حفلة العرس ضرراً متعمداً.
أمّا الجنرال الذي وعد بالتعاون مع بنازير، فقد كان يجري، ببرودة أعصاب، تدابير لإطالة بقائه في سدّة الرئاسة. وحتى قبل وصولها، فكّر في اتخاذ إجراءات صارمة لتفادي الحواجز التي تعترض طريقه، ولكن جنرالاته (والسفارة الأميركية) بدوا غير مقتنعين. وأطلق تفجير موكب بنازير النقاش من جديد. فقد كانت كل أنواع الانفجارات تهز باكستان، إن لم يكن بالتحديد البركان الثائر الذي وصفته وسائل الإعلام الغربية. وحقّق السلك القضائي، الغاضب لعزل كبير القضاة، نصراً مؤقتاً، ما أدّى إلى محكمة عليا مستقلّة بشكل شرس. واستمرت محطّات التلفزة المستقلّة ببث تقارير تتحدّى الحملة الإعلامية الرسمية. لم تتمتّع الصحافة التحقيقية يوماً بشعبية لدى الحكومات، وفي غالب الأحيان لم يلق فيها الجنرال المراعاة التي تعامله بها محطات التلفزة الأميركية ومحطة الـ«بي بي سي»، وذلك بسبب الأسئلة غير المنضبطة التي يثيرها الصحافيون المحليّون: «لقد ضلّلت الشعب». وأصبح مهووساً بالتغطية التي تقوم بها وسائل الإعلام لثورة المحامين، وزاد تراجع شعبيته من جنون الاضهاد الذي يشعر به. مستشاروه كانوا أشخاصاً رقّاهم، أمّا الجنرالات الذين عبّروا عن وجهات نظر مختلفة في اجتماعات غير رسمية وصريحة، فقد أُبعدوا. وشعر حلفاؤه السياسيون بالقلق من تقلّص فرص ازدياد ثروتهم إذا اضطروا إلى تقاسم السلطة مع بنازير.
فماذا لو كانت المحكمة العليا تنوي الإعلان أنّ إعادة انتخابه على يد جمعية تُحتضر ولا تتمتع بصفة تمثيلية غير شرعي؟ من أجل تفادي وقوع الكارثة، كان جهاز الاستخبارات يعدّ لعمليات ابتزاز: فقد قام بعض عملائه بتصوير عدد من قضاة المحكمة العليا سرّاً بأوضاع فاضحة. لكن مشرّف كان فقد شعبيته إلى حد كبير، فلم تحدث رؤية صور قضاة محترمين في سرير الإثم أي تأثير، لا بل ربما أدّت إلى زيادة الدعم لهم. (في عام 1968، عندما قام شخص يميني تافه موال للحكم العسكري بالتهجم عليّ، زعم أنني «حضرت حفلات عربدة في بيت ريفي فرنسي نظّمها صديق (لي)، وهو اليهودي كونبنديت. وكانت الخمسون امرأة الموجودات في حوض السباحة يهوديات». واحسرتاه، كان كل ذلك ملفّقاً، لكن أهلي دُهشوا لعدد الناس الذين هنّأوهم برجولتي).
قرّر مشرف أن الابتزاز لا يستحق عناء المخاطرة، وأنّ خطوة صارمة هي الوحيدة الكفيلة «بإعادة النظام» ــــــ أي إنقاذه شخصياً. وعادة يتمثل العلاج في مثل هذه الحالات بإعلان القانون العرفي. لكن ماذا لو كانت البلاد محكومة أصلاً من قائد أركان الجيش؟ الحلّ بسيط. زِد الجرعة ثلاثة أضعاف. نظِّمِ انقلاباً داخل الانقلاب. هذا ما قرّر مشرف القيام به. فأُعلمت واشنطن بذلك قبل الموعد المقرر ببضعة أسابيع، وأبلغت داونينغ ستريت بعدها بقليل. وقام معلّمو بنازير في الغرب بإخبارها بما سيحدث فانتقلت إلى دبي، فكان ذلك تصرفاً أحمق تقوم به قائدة سياسية عادت للتوّ إلى بلدها.
في 3 تشرين الثاني، علّق مشرّف، بصفته قائد الجيش، دستور عام 1973 وأعلن حالة طوارئ: فمُنعت كل محطات التلفزة غير الحكومية من البث، وعُطِّلت شبكات الهاتف الجوّال، كما طوّقت وحدات موالية للجيش المحكمة العليا. فدعا كبير القضاة إلى عقد اجتماع طارئ لمجموعة من القضاة أعلنت ــــــ بشكل بطولي ــــــ أنّ التدبير الجديد غير قانوني ومناف للدستور. فعزل القضاة ووُضعوا تحت الإقامة الجبرية في منازلهم من دون إثارة ضجة حول الموضوع. كان القضاة في باكستان عبر التاريخ أشخاصاً مذعنين، ومَن قاوم منهم الحكام العسكريّين في الماضي أخضع بالترهيب، لذلك فاجأ البلادَ قرار كبير القضاة وأثار إعجاباً عارماً به. وإذا كانت وسائل الإعلام العالمية التي تغطّي الوضع في باكستان غالباً ما تعطي عنه صورة بلد مليء بالجنرالات ورجال الشرطة الفاسدين والمتطرّفين الملتحين، فقد قدّم الصراع لإعادة تثبيت كبير القضاة في منصبه صورة مختلفة عن البلاد.
اعتزاز إحسان، وهو عضو بارز في حزب الشعب الباكستاني شغل منصب وزير الداخلية في أوّل حكومة ترأّستها بنازير، ورئيس جمعية بار حالياً، أوقف ووضع في حبس انفرادي. وأُوقف بضعة آلاف من الناشطين في مجال الحقوق السياسية والمدنية. واعتقل عمران خان، وهو مناوئ شرس للحكم وغير قابل للفساد، ووُجهت إليه تهمة ممارسة «الإرهاب ضد الدولة» ــــــ وتراوح عقوبتها بين الإعدام والسجن مدى الحياة ــــــ واقتيد مكبّل اليدَين إلى سجن ناءٍ يخضع لحراسة مُشدّدة. وكان خان يقول إنّ مشرف بدأ فصلاً رديئاً آخر في تاريخ باكستان.

شهادات من ديموقراطيّة مشرَّف

أوقف المحامون في كل أرجاء البلاد؛ وتعرض العديد منهم لاعتداءات جسدية على يد رجال الشرطة. وأُصدر أمر بإذلالهم فعملت الشرطة بموجبه. وأخبر أحد المحامين، ويُدعى عمر، رواية عما حدث: فيما كنت أقف متحدثاً إلى زملائي، رأينا الشرطة تتصرف بهمجية بناءً على أوامر أصدرها ضابط رفيع المستوى. هاجمنا حوالى مئة شرطي، وهم مجهزون بعدة محاربة الشغب... وشهروا علينا الأسلحة والعصي... وبدوا سعداء للغاية للقيام بذلك. ففررنا كلنا.
لم يكن عدد منا برشاقة الآخرين، فأمسك بنا رجال الشرطة وانهالوا علينا بالضرب بلا رحمة، ثم أقفلوا علينا في شاحنة للشرطة تُستخدم عادة لنقل السجناء المحكومين. كان الجميع مذهولاً أمام هذا المشهد الوحشي، إلا أنه لم ينتهِ عند هذا الحدّ. ألحقت الشرطة أضراراً متعمّدة بحرم المحكمة وبمبانيها... واقتيد الموقوفون إلى مراكز شرطة مختلفة ووُضعنا في مراكز توقيف مؤقتة. في منتصف الليل، أُعلمنا بأننا سنُنقل إلى السجن. حُرمنا دفع الكفالات لأنّ حقوقنا الأساسية عُلِّقت. وُضع ستون محامياً في شاحنة شرطة تبلغ مقاييسها عشر أقدام طولاً، وأربع أقدام عرضاً وخمس أقدام ارتفاعاً. ضُغطنا كسمك السردين. وعندما بلغت الشاحنة السجن، أُعلمنا أننا لا نستطيع النزول (للخروج منها) قبل أن يتبلّغ المسؤولون عن السجن أوامر احتجازنا. فبدأ زملاؤنا الأكبر سناً بالاختناق، وأُصيب بعضهم بالإغماء، فيما انتابت آخرين مشاعر الذعر بسبب رهاب الاحتجاز. تجاهل رجال الشرطة صراخنا ورفضوا فتح أبواب الشاحنة. وأخيراً، بعد مرور ثلاث ساعات... سُمح لنا بالخروج، واقتادونا إلى ثُكن موبوءة بالبعوض حيث كانت تفوح من الطعام الذي قُدم إلينا رائحة أشبه برائحة مياه المجارير.
محطة جيو، وهي أكبر محطة تلفزيونية، كانت قد أقامت مراكز بثّها في دبي منذ أمد بعيد. وكانت مشاهدة المحطة في لندن، فيما بقيت الشاشات بيضاء في باكستان، تثير مشاعر غريبة. في اليوم الأول من حالة الطوارئ، رأيت حميد مر، وهو صحافي يمقته الجنرال، يراسل من إسطنبول ويؤكد أنّ السفارة الأميركية أعطت الضوء الأخضر لهذا الانقلاب، لأنها رأت أن كبير القضاة مصدر إزعاج واعتقدت خطأً أنّه «يتعاطف مع حركة طالبان». حتماً لم يقم أي من المتحدّثين الأميركيين باسم وزارة الخارجية أو مجلس العلاقات الخارجية بانتقاد عزل قضاة المحكمة العليا الثمانية أو توقيفهم: فقد امتنعت واشنطن عن ذلك مقابل إلحاحها على خلع مشرف بزته العسكرية. أمّا مشرف، فأراد أن تُحرّف كل القوانين الأخرى لمصلحته إذا كان سيتحوّل من عسكري إلى مدني. فرأى أنّ هيئة قضاة تُعيّن حديثاً في المحكمة العليا وتكون بمثابة أداة بين يديه ستساعده في ثني القوانين. تماماً كما فعلت السلطات في دبي التي علقت كل تسهيلات البث التي منحتها لمحطة جيو.

خطاب حالة الطوارئ

مساء ذلك اليوم الأول، وبعد تأخيرات عدة، ظهر على شاشة التلفزيون الجنرال مشرف مرتبكاً بشعر أسيئت صباغته، وكان يحاول أن يبدو بمظهر القائد الذي يريد إفهام الجميع أن الأزمة السياسية يجب أن تناقش باتزان وهدوء. ولكن بدلاً من ذلك، تصرف كديكتاتور يخاف على مستقبله السياسي الخاص. وأتى أداؤه، عندما توجه بالكلام إلى الأمة أولاً باللغة الأوردية، ثم بالإنكليزية غير متماسك. فقد كان أساس القضية بسيطاً: اضطرّ إلى التحرك لأن المحكمة العليا «أوهنت عزيمة وكالاتنا الحكومية إلى درجة صرنا فيها عاجزين عن خوض الحرب على الإرهاب»، وأصبحت شبكات التلفزة «عديمة المسؤولية تماماً». وقال في منتصف خطابه «فرضت حالة الطوارئ» وأضاف بحركة ازدراء «لا بدّ أنّكم شاهدتم ذلك على شاشة التلفزيون». هل كان يتهكم، بما أنّ معظم المحطات أقفلت؟ من يدري؟ محمد حنيف، المسؤول عن خدمة الـ «بي بي سي» باللغة الأوردية، وهو رجل فطن سليط اللسان راقب البث، واعترف بأنه ذُهل عندما دوّن ما سمع. لم يساوره أي شك في أنّ النسخة الأوردية من خطاب الجنرال كانت من صنع يدي هذا الأخير. وقد استحق تفصيل حنيف لخطاب الجنرال برنامجاً خاصاً به ــــــ لقد دوّن كلام الجنرال بالأوردية والإنكليزية ـــــــ وممّا قاله، وصدّقوني، قيلت هذه الأمور بشكل اعتباطي جداً، أجل قال باللغة الأوردية ما معناه بالإنكليزية «أصبح التطرف متطرفاً جداً، لم يعد أحد يخشانا، إسلام أباد مليئة بالمتطرفين، ثمة حكومة داخل الحكومة، يُستدعى الضباط إلى المحاكم... يهين السلكُ القضائي الضبّاط».
في لحظة من اللحظات، بدا كئيباً عندما تذكر سنواته الثلاث الأولى في الحكم: «كنت أتحكم في الأمور تحكماً كاملاً». فتكاد تسأله: «ماذا جرى إذاً يا عم؟» ولكن بدا واضحاً أنّ العم لم يحتج إلى أي تلقين. فانطلق بكلامه الروتيني على مراحل الديموقراطية الثلاث. وادّعى أنّه كان بصدد إطلاق المرحلة الثالثة والأخيرة من الديموقراطية (بطريقة قوله هذا الكلام، جعل الأمر يبدو وكأنه الحل الأخير).
وعندما ظنّ الناس أنه سيوضح المغزى من كلامه، انحرف بشدة عن الموضوع وغرق في رثاء للذات. فتضمن كلامه نادرة طويلة روى فيها كيف فضّل قضاة المحكمة العليا حضور عرس ابنة زميل لهم على اتخاذ قرار نهائي يقضي بأنه رئيس دستوري... سمعت خطابات بعض الديكتاتوريين في حياتي، ولكن أحداً منهم لم يذهب به الأمر إلى حد ذكر عرس ابنة أحدهم كسبب لفرض القانون العرفي في البلاد.
وعندما توجّه إلى مستمعيه في الغرب باللغة الإنكليزية في خلال الدقائق القليلة الأخيرة من خطابه، انتابني فجأة إحساس عميق بالذلّ. كان هذا الجزء من خطابه مكتوباً، إذ كانت الجمل تبدأ وتنتهي. فأحسست بالذلّ لأنّ رئيسنا لا يعتقد فقط بأننا لم نتقدم كفاية لأمور مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان، بل بأنّنا أيضاً غير قادرين حتى على تركيب الجمل واستخدام القواعد بشكل صحيح.
شدّدت النسخة الإنكليزية من الخطاب على «الحرب على الإرهاب» وقال: «كان نابوليون وإبراهام لينكولن ليقوما بما فعلته ليصونا وحدة بلديهما» ــــــ وكان استخدام لينكولن، كما هو واضح، معدّاً للسوق الأميركية. أمّا في الأكاديميات العسكرية الباكستانية، فيتجسد الجنود ــــــ الأبطال عادة بنابليون وديغول وأتاتورك.
(عن «لندن ريفيو أوف بوكس) ــــ ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث