المشهد المقززِّ الذي احتل الشاشات والأبصار والأسماع، يوم الثلاثاء الماضي، سيبقى في الأذهان لفترة غير قصيرة. لا تُنسى بسهولة تلك اللحظات المتكررة التي وقف وصفق فيها أغلب أعضاء مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس الأميركي لقاتل الأطفال المجرم والإرهابي الكبير، رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. لقد استخفت الحماسة رؤوس معظم الحشد فبلغ بهم حد الهوس الحقيقي. كان ذلك، بين أمور أخرى، تعبيراً عن انحطاط وتردي السياسة إلى درجة إدارة الظهر لكل ما له أدنى علاقة بالقيم والمبادئ والأخلاق. طرفان يمارسان محاولة الكسب الانتخابي بأقذر الوسائل. من تل أبيب إلى واشنطن، كانت الانتخابات حاضرة: تلك التي ستحصل في 17 من الشهر الجاري في الدولة المغتصبة، أو الأخرى التي ستحصل في العام المقبل لاختيار رئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية.
غير أن ذلك لا يختصر كل المشهد. ثمة في إسرائيل، وبين صفوف قواها الأكثر عنصرية وفاشية وتمرساً بالإرهاب، من يستشعر مخاطر ومؤشرات المتغيرات التي تعصف بالعالم عموماً وبالمنطقة خصوصاً. لم يعد ثمة مجال لتكرار القول الذي راج في إسرائيل في حقبة «حكم المحافظين الجدد» (في ظل ولاية جورج بوش الابن الأولى خصوصاً): «نحن نحكم واشنطن وواشنطن تحكم العالم». لقد تغير العالم كثيراً في العقد الخير.
في أجندة قوى الهيمنة الأميركية وحلفائها، الآن، العودة إلى سياسة «فرق تسد»
الجشع وشهوة الهيمنة والنهب والمغامرات الفاشلة والانحطاط القيمي والأخلاقي، خلفَّت هي وسواها، الكثير من الأزمات التي كان أعظمها انهيار المؤسسات الأميركية المالية الائتمانية الكبرى في خريف عام 2008. في مجرى فشل و«إخفاقات» سياسات بوش و«المحافظين الجدد» تمّ رسم «حدود القوة»، والكلفة الهائلة لسياسة الغزو والاحتلال، حين تكون مرتكزة فقط إلى الخداع والغطرسة والتفرد واحتقار حتى الشركاء... أتاحت فرصة بداية التغيير في «البيت الأبيض» والعالم.
بين النتائج أن الولايات المتحدة لم تعد القوة العظمى الوحيدة في الكون. هي، مذذاك، تخضع لاختبارات وضغوط وتحديات من كل نوع: اقتصادية واجتماعية وعسكرية وأمنية وسياسية... في حقول اساسية تعاني واشنطن، الآن، من منافسة قد تُزيحها عن المراكز الأولى: الاقتصاد خصوصاً. في حقول أخرى فقدت واشنطن القدرة على التفرد أو التحكم (مؤسسات الشرعية الدولية)... في موضوع «القوة غير القابلة للتحدي» التي أطلق لها عنان العدوان والغزو «بوش الثاني» و«المحافظون الجدد»، بات الانكفاء والحذر سيدي القرار! لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة قد فقدت كل عناصر تفوقها أو هي مرشحة لذلك في المقبل من السنوات. لكن تلك القوة التي تربعت على عرش العالم لعقد كامل، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أول التسعينيات، بدأت تفقد ذلك الموقع الممتاز والفريد إلى غير رجعة!
في العناصر المؤثرة في مشهد «الكابيتول» الأميركي أيضاً، تداعيات ما ذكرنا وما لم نذكر، على منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. ههنا تتكثف وتتراكم وتتفاعل جملة عوامل من الماضي والحاضر لاختبار تطلعات جديدة وسياسات مختلفة وأساليب متنوعة ومتباينة. صحيح أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على ممارسة سياسة القوة، لكنها، بقوة، تجهد من اجل الدفاع عن صيغ هيمنتها السابقة ونهبها المستمر. تغيرت الاسباب والهدف واحد. في هذا السياق، لم يعد ينظر في واشنطن، إلى الدور والوظيفة اللذين كانت يشغلهما المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة، بالعين السابقة نفسها. هذا ما يخشاه الصهاينة عموماً، والليكوديون خصوصاً. استنفد نتنياهو محاولاته المسعورة لجر واشنطن الى حرب مع الجمهورية الاسلامية الايرانية بهدف تدمير أو تعطيل برنامجها النووي ودورها الإقليمي. هو الآن يخوض معركة شبه يائسة لمنع واشنطن من تطبيع علاقاتها مع طهران. معظم أولئك الذن صفقوا له في مبنى «الكابيتول» الثلاثاء الماضي بغرض كسب انتخابي يوفره لهم النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة، سيصغون، لاحقاً، أكثر، إلى أصوات كبريات مراكز الإنتاج والاحتكار والنهب التي توجه السياسات الكبرى الاميركية في الداخل وفي الخارج. تطبيع العلاقات مع طهران يقع ضمن استراتيجية اميركية تتكامل تدريجياً لجهة تعديل أو تبديل المواقع والآليات والاولويات، وهو ما دفع إدارة أوباما لاعتماد مبدأ التفاوض مع طهران، وهو أيضاً ما يجعلها تصر على جعل هذا التفاوض يصل الى نهايات تفاهم ما، مهما علت الأصوات الصهيونية المتوجسة، داخل وخارج الولايات المتحدة. التفاوض هذا لن يقف عند حدود الملف النووي وما يتصل به من رفع العقوبات المتنوعة المفروضة على الاقتصاد الايراني. إنه تفاوض مفتوح على كل الحقول والمجالات من ضمن استراتيجية أميركية عامة (وليس استراتيجية خاصة بالإدارة الحالية فقط) لإعادة تركيب وترتيب وضمان نفوذ ومصالح الولايات المتحدة في العالم وفق ما تمليه أوضاعه وتحولاته وتوازناته الجديدة.
لا تنظر القيادة الصهيونية بعين راضية الى ذلك. على العكس، هي تستشعر إرهاصات أفول دورها وضمور الحاجة اليها. هي تستشعر، بالتالي، أنها لم تعد ذلك الابن المدلل الذي لا يرفض له طلب او يوجه اليه لوم أو عتاب على جريمة أو ارتكاب.
يمكن القول، بمعنى من المعاني، أن الصهاينة يخوضون معركة «وجودية» للدفاع عن نمط العلاقة السابقة التي فرضوها على الغرب عموماً وعلى الولايات المتحدة خصوصاً. بموجب نمط العلاقة المذكور توفر لهم دعماً لا مثيل له في التاريخ: في حماية اغتصابهم وتوسعهم وعدوانهم ومجازرهم واحتقارهم للقرارات والاتفاقات الدولية. انه دعم شمل كل الحقول ومكّن الصهاينة من التصرف دائماً على أنهم، حقاً، «شعب الله المختار» الذي ستتحقق كل أهدافه فقط بوسائل الإجرام والقتل بحسب الأوهام والأساطير...
حاول ويحاول نتنياهو التصدي للمعادلات والعلاقات الجديدة. رغم التصفيق المغرض والهستيري (والمبتذل) في مبنى «الكابيتول»، ستستمر التحولات الاميركية وستسارع. لن يستطيع الصهاينة فعل الكثير لمنعها وان نجحوا في عرقلة بعضها أو تأخيره. انها قوانين موضوعية تلك التي تفرض ايقاعها على الادارة الاميركية الراهنة وكذلك على الإدارات اللاحقة. لم يكن بدون معنى أن الرئيس أوباما علّق بالقول: ما من جديد في خطاب نتنياهو. أضاف: ما هي خطته لمعالجة الأزمة الفلسطينية؟! هو يشير بذلك إلى ترابط وتداخل ملفات وأزمات المنطقة... وهذا ما يقلق غلاة الصهاينة.
«الفوضى» والتطرف اللذان يعيشهما الشرق الأوسط، راهناً، هما ثمرة تحولات كبرى ذات جذور تتعلق بالمسارات والمصالح الإستراتجية (الاقتصادية أساساً). سيملي ذلك توجهات ومقاربات وتوازنات اقليمية ودولية جديدة. طبعاً، لا ينطوي هذا التقدير على أي استنتاج من نوع أن المجمع الصناعي الحربي الأميركي ومنظومة هيمنته ومصالحه هما قيد المراجعة والتعديل بشكل جدي وجذري. المواجهة والمقاومة، هنا وهناك، هما ما فرضا إحداث بعض التغيير أوالتبديل في الوسائل دون الأهداف. خسائر، بل مآسي العرب الراهنة (وأساساً مأساة الشعب الفلسطيني التي يريد الإرهابي نتنياهو تأبيدها)، هي ثمرة افتقارهم للوسائل الضرورية والفعالة التي من شأنها تمكينهم من الدفاع عن مصالحهم.
في أجندة قوى الهيمنة الأميركية وحلفائها، الآن، العودة، بقوة، إلى سياسة «فرق تسد». إثارة الانقسامات، من كل نوع (خصوصاً المذهبية والإثنية) أو تعزيزها، هي الأداة الأفتك بنا والأكثر إضراراً بقضايانا. اعتماد خيار مقاومة المشاريع المعادية ينبغي أن يندرج ضمن نهج تحرري شامل طال غيابه وانتظاره. طبعاً ستستمر الخسائر والمعاناة طالما استمر التشرذم والفئوية والاستبداد، وخصوصاً، طالما استمر الرهان على «العدالة» الأميركية!
الأميركيون، وكثيرون سواهم يغيرون خدمة لمصالحهم. متى نفعل نحن ذلك للحد من الخسائر والكوارث المشرّعة على الأسوأ؟!
* كاتب وسياسي لبناني